عن الجماعات المسلّحة في العراق والإيمان بسلطة الدولة

4 قراءة دقيقة
عن الجماعات المسلّحة في العراق والإيمان بسلطة الدولة

في الحديث عن مشكلة الجماعات المسلّحة في العراق غالباً ما يتمّ اختصار الموضوع إلى وجود جماعات لا تأتمر بسلطة الدولة ولا تخضع للقانون العراقي، بما يوحي أن الحلّ هو في خضوع هذه الجماعات لسلطة الدولة، وتنتهي المشكلة.

 

لكن النظر إلى الصورة الأوسع يرينا أن المشكلة أكبر، وليست في مجرد وجود جماعات مسلّحة، مهما كان لونها وشكلها، وإنما في قوّة الدولة، بأذرعها القانونية والتنفيذية. المشكلة في موقف الدولة من حاملي السلاح، أو ممن يتجاوزون على القانون بأي شكل كان؛ بالتهديد والابتزاز أو تجنيد عناصر من الجريمة المنظّمة لتنفيذ أعمال قذرة لصالح أطراف سياسية غير مسلّحة بالضرورة. فإن نجحت العملية وأفلت المجرم يتحقّق الهدف الذي تسعى إليه هذه الجهة السياسية، وإن جرى القاء القبض عليه، فستكون الأحزاب في وضع يسمح لها بالتنصّل من المنفّذين، فهم لا يتبعونها سياسياً.

 

قوّة الدولة، بل أساس وجودها هو في قوّة السلطة التنفيذية ونزاهتها وعدالتها، ولهذا يقال عادةً إن قوّة النظام في دولة مليارية مثل الهند هي في قوّة الجهاز الأمني الهندي، فعلى الرغم من الكثير من الاضطرابات الطائفية والحوادث التي حصلت في هذا البلد، إلا أن رجل الشرطة الهندية الذي يرتدي البزّة الأمنية، يتصرّف من وحي العقيدة الوطنية الأمنية التي يتمثّلها، لا من أصوله الطائفية والاجتماعية ولا من أغراضه الخاصّة، ولا يخضع للتهديد أو الابتزاز.

 

كانت السنوات من تشرين الأول 2019 إلى اليوم هي من أسوأ الفترات التي مرّت على العراق من جانب تنفيذ القانون، وقيّدت الكثير من الحوادث الأمنية ضد مجهول، إن كانت هذه الحوادث مع عراقيين أو جنسيات أجنبية مثل اختطاف صحفيين أو عاملين في المنظمات الانسانية، فإما أن يُطلق سراحهم من دون أن تكشف السلطات الأمنية هوية الجناة، أو يُقتلون ويغيّبون.

 

لا يكفّي أن نعلّق هذه الحوادث على شمّاعة "الجماعات المسلّحة الخارجة على القانون"، وإنما يجب أن توضع قدرة السلطات الأمنية أمام الفحص، ومحاولة معرفة أسباب ضعفها، ولماذا لا يستطيع رجل الأمن العراقي أن يقف بوجه من يخرق القانون أياً كان شكله ومن أي جهة وطرف كان.

 

تفاوض الأطراف السياسية المشكّلة للحكومة اليوم بعض قادة المليشيات من أجل عقد صفقة معهم، قبل موعد تسلّم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مهامه في العشرين من هذا الشهر، من أجل إلقاء السلاح، وربما الحصول على ضمانات بعدم الملاحقة القانونية فيما بعد.

ولكن، ماذا لو أن هذه الأطراف السياسية لم تتعرّض لضغوط شديدة من الجانب الأميركي، ومن جرّاء تراجع القوّة الإيرانية في المنطقة بسبب الأحداث الأخيرة في لبنان وسوريا؟ هل هناك إرادة سياسية حقيقيّة لفرض القانون، أم هي مجرد اجراءات شكلية لتجاوز العاصفة؟

 

إن التغيير الحقيقي في المشهد السياسي والأمني العراقي، بالتجاوب مع المتغيرات الإقليمية والدولية، أو بناءً على رغبة وطنية صادقة عند الفاعلين السياسيين العراقيين، يجب أن يستهدف حصر "القوّة" الأمنية والقانونية في يد الدولة، لا مجرد أخفاء السلاح المنفلت وراء الملابس، أو تحت الطاولة، ليكون مخفياً لبعض الوقت، وجاهزاً للاستعمال في وقتٍ لاحق.

 

المشكلة عند الفاعل السياسي العراقي أنه لا يرى وجود مشكلة في الوضع الحالي، وأنه قادر على التعايش معه، والمشكلة هي في الضغوط الأميركية عليه. إنه يرى أن هناك إمكانية للتعايش مع السلاح المليشياوي المنفلت، وتحمّل الضرائب والإحراجات التي يسبّبها لصورة العراق في العالم، وفي المقابل؛ فهو يكسب من هذا السلاح قوّته السياسية الضاربة للسيطرة على الخصوم السياسيين، أو إرهاب المجتمع ومنعه من إعلان رفضه للأخطاء والجرائم التي ترتكبها الدولة.

 

لذلك فإن هذا الفاعل السياسي من الصعب أن ينتج وضعاً جديداً، وسيقف عند حدود الإجراءات المستجيبة للضغوط الأميركية، أما الحلّ الحقيقي، فسيكون على أيدي أناس يؤمنون فعلاً بالدولة وسلطتها الأمنية والقانونية، وأن هذه السلطة هي حجر الأساس في بناء بلد مستقر آمن مزدهر اقتصادياً واجتماعياً.

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 10 يناير 2025 10:00 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.