التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتشابه بشكل مخيف أحياناً. عام 2003 كان عاماً مفصلياً للعراق، ولكن بدل أن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أكثر استقراراً، تحول إلى درس قاسٍ في كيف يمكن للأخطاء السياسية والتدخلات الخارجية أن تقود بلداً غنياً بالإمكانات إلى حالة من الفوضى. الآن، سوريا على أعتاب مرحلة مشابهة، والتحدي الأكبر هو: هل نتعلم شيئاً أم نكرر نفس الأخطاء؟
العراق: درس قاسٍ من التردد
لا أحد يريد الاعتراف بأنه حينما سقط نظام صدام حسين، لم يكن هناك استعداد حقيقي للتعامل مع "العراق الجديد". القوى الدولية بدت كمن أشعل حريقاً دون خطة لإطفائه، ودول الجوار نظرت إلى المشهد كمتفرج خائف، بينما العراقيون أنفسهم دخلوا مرحلة من الصدمة التي جعلتهم أسرى للصراعات الداخلية.
التاريخ يعج بأمثلة عن الدول التي ترددت في إقامة علاقات مع أنظمة جديدة لكن لا مجال لسرد أمثلة بعيدة تاريخياً وجغرافياً ربما مثال عراق 2003 ويا للمفارقة هو مثال جيد للعراق نفسه! العراق الذي ترك وحيداً من دول الخليج، التي يفترض أنها الأكثر تأثراً باستقرار العراق، اختارت سياسة التردد. خوفها من "عراق شيعي" يجعلها قريبة من إيران دفعها إلى تجاهل العراق، لتترك الفراغ مفتوحاً أمام النفوذ الإيراني. هل يمكن لسوريا أن تواجه مصيراً مختلفاً؟ إما أن تُعامل سوريا الجديدة كفرصة حقيقية للعراق لبناء استقرار إقليمي، أو أن تُترك لتصبح ساحة لصراعات إقليمية تُعيد إنتاج المأساة العراقية. الخيار الأول يتطلب شجاعة وإرادة سياسية، والثاني يتطلب فقط التفرج، وهو ما نجيد فعله جميعاً.
الميليشيات: سرطان داخل العراق وسرطان محتمل لسوريا
الحقيقة تقول إن العراق ليس في أفضل حالاته لتقديم العون لأي جهة، حتى نفسه. الميليشيات أصبحت الدولة داخل الدولة. قرارات السياسة الخارجية أصبحت أقرب إلى نوبات مزاجية، لا رؤية استراتيجية. هذا درس مهم لسوريا.
حينما تم تفكيك الجيش العراقي في 2003، بدا القرار كأنه "خطأ تقني". لكن الحقيقة؟ كان كارثة استراتيجية. داعش والقاعدة لم تظهر فجأة؛ بل كانت نتيجة مباشرة لهذا الفراغ. إذا أرادت سوريا تجنب نفس المصير، فعليها أن تعيد بناء مؤسساتها الأمنية، ولكن بحذر. لا يمكنك بناء دولة بإعطاء السلاح للجميع، ثم تتوقع منهم احترام الدستور!
إيران: الحليف الذي لا يشبه حليفاً
لم تضيع إيران دقيقة في تعزيز نفوذها داخل العراق. دعمها للميليشيات، تغلغلها في الاقتصاد، وتحكمها في القرار السياسي جعل العراق أشبه بمحافظة إيرانية تحت إدارة غير مباشرة، لكن المشكلة ليست فقط في إيران، بل في العراق نفسه. الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت في وضع حدود واضحة لهذه العلاقة. بدلاً من بناء علاقة ندية، اختار العراق أن يكون تابعاً في ملفات حيوية، مثل الاقتصاد والطاقة والسياسة الإقليمية.
إذا أراد العراق تقديم نموذج لسوريا، فعليه أولاً أن يتحرر من هذه القبضة الإيرانية. إيران لا ترى في العراق شريكاً متكافئاً، بل منصة لتحقيق طموحاتها الإقليمية. وعلى سوريا أن تتعلم من هذا الدرس: الحليف الذي يبدو وكأنه يقدم لك الدعم بلا شروط قد يكون هو ذاته أكبر خطر على استقلالك.
العراق لا يحتاج إلى قطع علاقاته مع إيران، فهذا غير واقعي. لكنه يحتاج إلى استراتيجية تُقلل من اعتماده عليها. مشاريع مثل "طريق التنمية" ليست مجرد حلول اقتصادية، بل خطوات نحو فك الارتباط التدريجي مع الاقتصاد الإيراني. تعزيز العلاقات مع دول الخليج والأردن، وبناء شراكات مع سوريا الجديدة، يمكن أن يخلق توازناً إقليمياً يحمي الجميع من الهيمنة الإيرانية.
الحدود المشتركة: جبهة تحتاج إلى التعاون
الحدود بين العراق وسوريا لم تكن يوماً آمنة. هذه المنطقة، التي لطالما كانت ممراً للمقاتلين والأسلحة والمخدرات، أصبحت اليوم خطراً أمنياً حقيقياً على كلا البلدين. العراق وسوريا يحتاجان إلى خطة مشتركة لضبط الحدود. هذا لا يعني فقط نشر القوات أو بناء الجدران، بل أيضاً تبادل المعلومات الاستخباراتية، تنفيذ عمليات مشتركة، وبناء نظام أمني يعتمد على التكنولوجيا الحديثة.
الحدود ليست فقط نقطة ضعف، بل يمكن أن تكون نقطة قوة إذا ما تم التعامل معها بحكمة. تجربة العراق وسوريا في هذا السياق قد تكون نموذجاً لما يمكن تحقيقه من تعاون إقليمي حقيقي.
الاقتصاد: طوق نجاة الشعبين الذي يتدلى من الاستقرار
اقتصادياً، العلاقة بين العراق وسوريا تحمل إمكانيات هائلة. مشروع "طريق التنمية" العراقي يمكن أن يكون نقطة تحول لكلا البلدين، خاصة إذا تم ربط العراق بالموانئ السورية مثل طرطوس واللاذقية. هذه المشاريع لا تعني فقط تسهيل الحركة التجارية، بل أيضاً خلق شراكة اقتصادية تُقلل من التبعية للخارج.
لكن هذه الإمكانيات تواجه تحديات كبيرة. السيطرة على الموارد، مثل النفط والغاز، لا تزال مصدراً للصراعات. مناطق النفط السورية تحت سيطرة "قسد"، مما يُعقد فرص التعاون الاقتصادي الحقيقي بين العراق وسوريا. العراق يمكن أن يلعب دور الوسيط، لكن بشرط: تعلم من أخطائه في إدارة موارده. تنفيذ هذه المشاريع يتطلب استقراراً سياسيًا، وهو شيء يفتقده الطرفان. العراق لا يزال يحاول إحياء أنبوب النفط كركوك-بانياس، ولكن التحديات أكبر من مجرد إعادة تشغيل أنبوب قديم، ولهذا؛ فإن العراق وسوريا أمام لحظة فارقة. العلاقة بينهما ليست مجرد علاقة بين دولتين جارتين، بل فرصة لإعادة تشكيل خريطة المنطقة، لكن لتحقيق ذلك، يجب أن يتحرر العراق من قيود ماضيه، وخاصة من هيمنة إيران. سوريا، من جانبها، بحاجة إلى الاستفادة من التجربة العراقية لتجنب نفس الأخطاء.
بناء الدول ليس مجرد شعارات أو خطب، بل قرارات شجاعة، تخطيط طويل المدى، واستقلال حقيقي في القرار السياسي. العراق وسوريا يمكن أن يكونا شريكين حقيقيين، لكن فقط إذا تحليا بالشجاعة لرؤية الماضي كما هو، وليس كما يُروى.