قبل البدء بكتابة المقال سألت الأصدقاء عن حقوق الإنسان في العراق وما الذي تعنيه في واقع ملتبس؛ وجودها وعدمها، كيف يفكر المواطن العراقي بحقوقه، وما هو أول شيء يطرق أفكاره عند الحديث عن الحقوق، والأهم: ما الذي يريده؟
وبينما يصارع العراقي يومياً لغرض الحصول على حقوقه كمواطن طبيعي في بلد خرج من سيطرة الاستبداد قبل أكثر من 20 عاماً، إلا أن لحظة خروجه للنور، ما تزال رهينة لاستبداد السلطات الحاكمة وتفردها بمنابع القرار، وما يزال المواطن العراقي يبحث عن الحرية والكرامة، ولم يصل لأهدافه في مجال حقوق الإنسان، بل أن الانتهاكات مستمرة، وتتخذ أشكالاً جديدة في الواقع.
لا يتعلّق أمر حقوق الإنسان بالقضايا الشائعة عنه، بل أنها تصل حتى إلى التنفس، هل ثمة أرخص من الهواء؟ قبل أيام وتحت سماء ملوثة بالكبريت، بدأ أحد الأصدقاء الحديث، وقال: "أريد اتنفس ببغداد بدون ما خشمي يتحسس". هنا صار التنفس بشكل طبيعي من الأحلام غير المتحققة، وهو في العالم، لا يذكر ضمن الحقوق أصلاً!
"أريد أحجي براحتي "
مع بداية رسم شكل الحكومة الحالية، وأعني حكومة محمد شياع السوداني، أصبح أبسط حق من حقوق المواطن، رهين تقلبات وأمزجة السلطة، فبينما تنطق الأيدي والأرجل - مثلما يقولون - يبقى العراقي صامتاً مثل تلفاز مغلق، فمنذ تسنمه المنصب، عمل السوداني على شراء الذمم أولاً، وقطع الألسنة ثانياً، كتاب وصحفيون وفنانون وأدباء تحولوا إلى وسائل تلميع مزعج، فضلاً عن عشرات الصفحات التي تمول من السوداني وتأخذ حيزاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وتنشر إنجازات "فيسبوكية"، لينافس محتوى الحكومة، محتوى البلوكرات والفاشينستات، وكما نشاهد مقاطع قص الأشرطة لافتتاح مطعم جديد من قبل بلوكر، نرى رئيس الوزراء يمسك المقص ذاته لقطع افتتاح مجسر أو مستوصف أو شيء يمكن أن يقترب منه المقص ويحسب ضمن الإنجازات!
ووسط حفلات التطبيل هذه، هناك صفحات ومواقع صحفية أخرى أغلقت بدون أمر قضائي، فقط لأنها أرادت أن تقول الحقيقة ذات يوم . لقد أصبحت حرية التعبير شيء بعيد المنال، وهو أشبه بتغريد البلبل داخل القفص، وبطريقة البلبل الذي يريد أن يحلق قال زميل صحفي بعد تضييق مر به: "اريد أحجي براحتي على المو زين بدون ميكتلني أو يسجني". كان هذا وسط حديث لمسؤولين عن دعمهم لحرية التعبير في البلاد!
"أريد القانون يتطبق"
نشرت هيومن رايتس تقريراً عن تصاعد الإعدامات غير القانونية في 2024 بدون سابق إنذار، وبدون إشعار أفراد الأسر، ولا حتى فريق المحامين، بعيدا عن التعذيب وانتهاكات الحق في المحاكمة العادلة، كما ذكر التقرير أن قرابة 150 سجيناً في سجن الناصرية، كانوا يواجهون الإعدام الوشيك دون سابق إنذار، ولن أتحدث عن "سمسرة النساء والرجال" داخل السجون العراقية، ولا عن الاعتقالات غير القانونية، أو الاعتقالات التي تنتهي فيما بعد "بكعدة عشاير" بتجاهل الحق العام.
ومن آخر نقطة في حياة الإنسان "الموت"، إلى عمق الحياة والممارسات اليومية، نجد أن القانون يختبئ بين أروقة المكتبات، في الكتب، لكنه بعيداً عن الشارع العراقي، فأي قانون يمكنه أن يبسط ذراعيه وسط مدينة مليئة برشاشات وبنادق الميليشيات التي تسيطر على المشهد العراقي، وبينما يحدث كل ما يحدث من غياب وخرق للقانون، تتصدر قرارات يومية بشأن المحتوى الهابط وحرية استخدام الإنترنت وتناقش داخل قبة البرلمان قوانين تعيدنا إلى الجاهلية، والنقاش حول "زواج القاصرات"، قالت زميلة تخاف دائماً من "السلاح المنفلت": "أتمنى أن أجد يوماً يطبق القانون فيه مثل بقية الدول التي أسافر لها".
"أريد السخان بي مي حار"!
قلت إن الأمر في العراق لا ينحصر فقط بالحقوق الشائعة، إذ أنها تتحول إلى أحلام في بلاد لا نظام فيها. أستطيع أن أتخيل شكل الآباء، وهم يسردون لنا قصة كفاحهم مع "اللالة" أو الفانوس، لكن أن يتكلم أي أب عراقي عن أزمته مع الكهرباء لأطفال ولدوا في عصر الذكاء الاصطناعي أمر غريب ومضحك، قال صديقي: "أريد السخان بي مي حار بدون ما انتظر الوطنية ترجع".
ورجعت معه لأيام فيها لهيب الصيف يذيب الصخر وفترة انقطاع الكهرباء وصلت لـ100% في بعض المناطق والمحافظات، وبدرجات حرارة تجاوزت الـ50%، حتى فصل الشتاء الذي ينتظره العراقيون للتخلص من أزمة الحر، يأتي محملاً بالفيضانات بسبب سوء البنى التحتية. تخيلوا معي أن مواطناً عراقياً مات غرقاً في فصل الشتاء، لأن مجاري الصرف الصحي مغلقة وآخر مات بسلك كهربائي نتيجة لهطول الأمطار!
في بلد يعاني من الجفاف، من المضحك أن يموت إنسان بسبب الأمطار، ومن السخف أن تنبت نبتة في أرض قاحلة للسبب ذاته!
"صوت التيكتوك هو الصوت الأعلى"
إن الحديث عن حقوق الإنسان في العراق، أمر به رفاهية بالنسبة للمواطن البسيط، فإشارة المرور الخضراء صارت الحلم الذي ينتظره العراقيون يومياً، وهو أقصى طموح بالنسبة لهم، لأن المواطن الذي يستغرق في النوم وهو واقف وسط زحامات مرورية، لا يريد سوى أن يعود لمنزله يستلقي على السرير مثل جثة عادت من الموت.
وبالعودة لأزمة "إنجازات السوداني"، فإن ظاهرة جديدة لم يلاحظها كثيرون رافقت هذه الفترة. أستطيع أن أطلق عليها اسم: "التوقف التيكتوكي". لقد صار سائق التكسي يتصفح "التيكتوك" عبر خاصية "الريلز"، وهو يقود السيارة، وذلك لأنه يقضي ساعاته واقفاً في الزحامات المرورية، فيلجأ فيها لقتل الملل عن طريق مشاهدة الفيديوهات، إلى أن أصبح الأمر عادة خلفتها إنجازات الحكومة الحالية التي تقول إنها تريد لـ"صوت المكائن أن يكون هو الصوت الأعلى".
فبدلاً من التركيز على مشاريع إنتاجية تساهم في تنمية الاقتصاد على المدى الطويل، تفضل الحكومة المشاريع السريعة ذات الطابع الانتخابي، مثل افتتاح الطرق والجسور، والتي لا تعالج المشاكل الجذرية، فالحكومة تتحرك بدافع حسابات أصوات الناس قصيرة الأجل، متجاهلة بذلك المشاريع الصناعية التي تحتاج إلى وقت وجهد أكبر لتحقيق نتائج ملموسة، ولو كانت الحكومة جادة في وعودها، لكانت جعلت من صوت المصانع والمعامل هو الصوت الأعلى.
وفي غمرة ما يتم الحديث عنه من "إنجازات"، المواطن ومنذ فترات طويلة، ينتهي يومه في الزحامات، يشاهد "الريلزات"، ويتصفح بملل قاتل، دون الحفاظ على حقه في وقته أين يقضيه. الخروج من البيت هو مشروع كبير في البلاد!
"الأمان السائل"
يتحدث رجال السلطة عن الأمان، مقارنة بعصر كانت المفخخات تختبئ به أمام أعتاب المنازل، وأستطيع أن أجزم أن العراقيين جميعاً لن ينسوا فترة كان فيها القتل على الهوية. لا أقدر أن أتخيل خوفاً أكثر من ترقب رجل لا يعرف ماذا يقول اسمه: "علي أم عمر؟".
ولكن ما نعيشه اليوم ضمن عجلة السوء ذاتها، وهو أشبه بحال جندي لم يقتل لكنه يشاهد رفاقه يحتضرون أمام عينيه، حيث أن المواطن يستطيع أن يسير بأمان في الشارع، دون أن يتوقف بالسيطرات، لكنه ممكن أن يقتل برصاصة من قاتل يستقل دراجة "دلفري"، يستطيع أن ينام، وهو مطمئن بأنه لن يستيقظ على دوي انفجار، لكنه خائف من كل الأصوات، فأي أمان في بلد تزرع به الحكومة عيونها على رجالات السلطة ونسائهم، وتدخل بيوتهم وغرف نومهم وتعرف حياتهم اليومية، هذا عن رجال السلطة فيما عرف بـ"قصة التنصت"، فما بالك بالمواطن الضعيف؟!
في ظل هذه الأوضاع، صار المواطن العراقي يعتبر نفسه محظوظاً إذا تمكن من النوم ليلة كاملة دون انقطاع الكهرباء، أو إذا وصل إلى عمله دون أن يتأخر بسبب حركة السير، وأصبح يخشى من كل شيء: من انقطاع المياه في منتصف الليل، ومن انهيار البنايات المتهالكة التي لا تراعي إجراءات السلامة، ومن تفشي الأمراض بسبب تلوث البيئة، ومن انزعاج مسؤوله في الوظيفة، ومن تهديد عشائري، ومن فورة ميليشياوية، ومن أن يتكلم! لقد نسى المواطن حقوقه الأساسية، وبات الحديث عن حقوق الإنسان رفاهية لا يمكنه التطرق لها.
درس الأسد الذي غادر الغابة هارباً
وبالتزامن مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وبعد قرابة 5 عقود من الاستبداد حول فيها البلاد إلى غابة، سقط الرئيس وانهار نظام قائم على الإجرام والقتل والتعذيب و"البراميل". إنها لحظة استعادة الحقوق للسوريين وشعورهم بأن ثمة ما يمكن أن يغيّر المسار المظلم. استيقظ الناس على خبر هروبه كالنعامة، في مفارقة تجعل من اسمه حكاية ساخرة، فهل سيعي النظام العراقي ما حدث؟ وهل سيجيء يوماً يكتب فيه: رحل الأسد وبقيت الغابة للطيور والعصافير؟!