الذي يأتي قادماً إلى أربيل، هذه الأيام، ربما يتفاجأ من تحوّل شوارعها وساحاتها إلى غالبة لصور المرشّحين والمرشّحات لانتخابات برلمان إقليم كوردستان العراق. صور مختلفة لمرشّحين من أحزاب متنوّعة، وقد وضعت بطريقة يمكن إزالتها بسهولة بعد انتهاء شهر الدعاية الانتخابية.
حين تسأل الناس العاديين، فلن تتفاجأ أن نسبة لا بأس بها منهم غير متحمّسين للمشاركة في عملية التصويت والاقتراع، وهذه مسألة ليست خاصّة بهذه الانتخابات، وإنما هي سائدة في أغلب الدورات الانتخابية المختلفة في عموم العراق.
هناك كتلة ممتنعة "ايجابية" موجودة في كلّ انتخابات في العالم، وهم أولئك الذين يرون أن مجريات الانتخابات ستجري، في كلّ الأحوال، بشكل معتاد من دون مشاركتهم، فيعفون أنفسهم سلفاً من مسؤولية المشاركة. وهناك كتلة ممتنعة "سلبية" لا ترى في الانتخابات وسيلة حقيقية للتغيير، وترى فيها مجرد لعبة، فيكون موقفها المقاطع تعبيراً عن رأي سياسي معارض أو محتجّ.
غالباً ما تتنافس الأحزاب والكيانات السياسية على المقاطعين والممتنعين، وتحاول تحريضهم على المشاركة، لأن هذه الكيانات قد ضمنت سلفاً مستوى معيّن من التصويت من قبل قواعدها الجماهيرية المعتادة. وتحاول تحريك الموازين بسحب المتردّدين أو المقاطعين إلى صفّها.
تعد التجربة الديمقراطية في العراق، قياساً بالديمقراطيات الراسخة حول العالم، ناشئة وفي طور النمو، ويبدو معها مزاج المقاطعة ضارّاً.
إن نضج الديمقراطية وجعلها أداة فعّالة للتغيير والتقدّم، لا يكون إلا بتطوير الديمقراطية نفسها، والتعامل معها بجديّة، أما المقاطعة فهي لا تفعل شيئاً سوى أن تترك للأحزاب المعروفة أن تفوز بشكل مريح اعتماداً على قواعدها الشعبية المألوفة.
المعضلة التي واجهتها الفلسفات السياسية الحديثة تتمحور حول الإمكانية التي يمكن من خلالها إنتاج "الشرعية"، وكيف يمكن تقييد هذه الشرعية وأن لا تكون مطلقة أو بلا رقابة. ويأتي الاقتراع الدوري كل بضع سنوات لاختيار ممثلين عن الشعب، جزءاً من إجراءات الشرعية المؤقتة والمشروطة، والتي تأتي بديلاً عن الاستبداد والتسلّط، وبديلاً عن فرض الأمر الواقع الذي ينتجه السلاح والقوى المسلحة المنفلتة.
لا تؤدي الديمقراطية وآلياتها المختلفة بشكل تلقائي إلى وضع مزدهر، لأنها ليست عملية أحادية، تقوم بها السلطة فحسب، وإنما بالسجال مع المجتمع، وتتطوّر السلطة بتطوّر المجتمع ووعيه، كما أن السلطة يمكنها أيضاً أن تقوم بدور معاكس؛ فتساعد المجتمع على النضج والتطوّر أو تعزّز عنده الانقسام والشعبويات والغرائز العدوانية.
إن تعزيز التجربة الديمقراطية في إقليم كوردستان ونجاحها يساعد على تقوية الديمقراطية في العراق، بعدّها مصدر الشرعية السياسية، بالضد ممن يحاول فرض "شرعياته" الأخرى، من خارج الحلبة الديمقراطية.
إن هذه "الشرعيات" المزعومة تحاول إضعاف السلطة الشرعية في بغداد، بمشاريع عابرة لحدود الوطن، وترتبط بطموحات إقليمية لا شأن للعراق بها ولا تمثل مصالح حيوية للعراقيين بمختلف أطيافهم وقومياتهم.
إن إقليم كوردستان ببرلمان وحكومة قويّين، يمنح قوّة للشرعية السياسية القادمة من صناديق الاقتراع، ويعزّز من مساحة سلطة الدولة داخل العراق الاتحادي بشكل عام، ويسند شرعية حكومة بغداد التي أنتجها برلمان 2021، بإزاء شرعيات منفلتة تنتجها قوى السلاح التي تريد المغامرة بمقدرات البلد في مشاريع سياسية وعسكرية خارج الحدود. وتزعزع من مكانة العراق الإقليمية وتؤثر على صورته في المجتمع الدولي.
بالرغم من كلّ التعقيدات التي شابت موعد إجراء الانتخابات في برلمان كوردستان العراق، والخلافات بين الأطراف السياسية داخل الإقليم لكن إقرار موعد لها ثم ظهور دعايات المرشحين في شوارع المدن الكوردستانية المختلفة يعزّز التفاؤل بنجاح التجربة، وتعزيز سلطة الديمقراطية وأن الشرعية السياسية لا تأتي إلا من خلالها فقط.