خاص| كرسي ذوي الهمم يشدّ العزم نحو الانتخابات.. مقارعة مع الإقصاء وكسر لنمطية التمثيل التقليدي

خاص| كرسي ذوي الهمم يشدّ العزم نحو الانتخابات.. مقارعة مع الإقصاء وكسر لنمطية التمثيل التقليدي مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة (الجبال)

في سابقة هي الأولى من نوعها داخل الحياة السياسية العراقية، يدخل شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة سباق انتخابات مجلس النواب، معلناً تحدّيه للواقع السياسي والاجتماعي الذي أبقى هذه الفئة على هامش القرار لعقود. لم يأتِ ترشّحه بدافع شخصي أو طموح فردي، بل بوصفه موقفاً احتجاجياً على غياب التشريعات الحقيقية التي تنصف ذوي الإعاقة وتضمن حضورهم الفاعل في مؤسسات الدولة.

 

هذا الحدث لا يمثّل مجرد تجربة انتخابية عابرة، إنما علامة فارقة في تاريخ البرلمان، تفتح الباب أمام تحوّل في مفهوم التمثيل السياسي، وتعيد الاعتبار لفئة لطالما حوصرت بالوعود والمجاملات. خطوة قد تُحدث صدعاً في جدار الصمت الطويل الذي أحاط بحقوق ذوي الاحتياجات، وتعيد رسم ملامح المشاركة السياسية في العراق من جديد.

 

الوجع المشترك يوحد الصفوف

 

يقول محمد عادل، أحد الناشطين من ذوي الإعاقة، إن "فئتهم ما تزال تواجه سلسلة طويلة من التحديات اليومية التي تبدأ من غياب القوانين الفاعلة وتنتهي عند تفاصيل بسيطة في التعامل داخل المؤسسات الحكومية".

 

يصف محمد الواقع بمرارة قائلاً: إن "القوانين التي أُقرّت لضمان حقوق ذوي الإعاقة بقيت حبراً على ورق، ولم تجد طريقها إلى التطبيق الفعلي"، مضيفاً أن "التعامل مع ذوي الاحتياجات في المؤسسات الرسمية ما زال يفتقر إلى الحد الأدنى من الوعي والاحترام".

 

وأكد، أن "غياب الصوت الحقيقي داخل مجلس النواب هو أحد أبرز أسباب استمرار هذه المعاناة"، مشيراً إلى أن "وجود ممثل من ذوي الإعاقة داخل البرلمان قد يشكّل نقطة تحوّل حقيقية في الدفاع عن حقوقهم؛ لأنه الأقدر على نقل الصورة الواقعية لمعاناتنا اليومية، كونه يعيشها مثلنا تماماً".

 

ومن وجهة نظر محمد، فإن "هذا الترشيح سيكون من شأنه أن يعيد حق فئة لطالما وُضعت على الهامش؛ لأن التعامل معها لا يجب أن يكون بوصفها عبئاً إنما قضية حقوقية وإنسانية".

 

"صوتنا ليس منّة بل حقّ"

 

من جانبه، يرى الناشط حسين وصفي كامل، أن "الوقت قد حان لكسر جدار الصمت الذي طوّق ذوي الاحتياجات الخاصة داخل المجتمع ومؤسسات الدولة".

 

فبحسب قوله، "لا يمكن الحديث عن دمجٍ حقيقي أو مساواة ما دام الصوت الذي يمثل هذه الفئة غائباً عن دوائر القرار، وما دامت قضاياهم تُطرح كملفات ثانوية تُستدعى في المناسبات ثم تُطوى سريعاً".

 

يقول كامل: "نحن نريد صوت فعلي، ليس مجاملة ولا شعار انتخابي. صوت يحسّ بنا وبمعاناتنا اليومية، من صعوبة التنقل إلى نقص الرعاية الصحية، إلى غياب الدعم المادي والمعنوي".

 

ويضيف أن "الدعم لهذه الخطوة لا يجب أن يقتصر على المبادرات الفردية بل أن يتحول إلى التزام رسمي من الدولة بتفعيل القوانين المعطّلة، وإنشاء برامج تدريب وورش حقيقية تفتح أمام ذوي الإعاقة فرص المشاركة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية".

 

بالنسبة له، "ترشيح شخص من ذوي الاحتياجات لمجلس النواب ليس استثناءً يجب التوقف عنده، بل البداية الطبيعية لمرحلة جديدة يُعاد فيها تعريف مفهوم المواطنة والمساواة في العراق، بعيداً عن المجاملات واللغة التجميلية التي أخّرت الاعتراف بحقوق هذه الفئة لعقود".

 

ويقول: إن "ترشّح أحد أبناء هذه الفئة إلى مجلس النواب لا يأتي ترفاً انتخابياً بل يمثل رسالة بأنّ زمن الإقصاء الهادئ قد انتهى. فذوو الاحتياجات في العراق لم يعودوا مجرد متلقين للمساعدة، بل يطالبون بموقعهم داخل منظومة التشريع والرقابة، ليتحولوا من موضوع للمناقشة إلى طرف في صناعة القرار".

 

دعم من البرلمان

 

هذا الترشيح يشكّل اختباراً لجدية الأحزاب والنواب في تبني سياسات شاملة وتفعيل التشريعات التي طال انتظارها، كما يعكس توجهاً متنامياً لدى المجتمع نحو قبول تنوع التمثيل وإدراك أن الديمقراطية الحقيقية تبدأ عندما يُسمع صوت كل مواطن، بغض النظر عن ظروفه الجسدية أو الاجتماعية.

 

وفي هذا السياق، يبرز موقف النواب الذين رحّبوا بالفكرة، معتبرين أنها "خطوة عملية لإعادة تعريف المشاركة السياسية في العراق وخلق مساحة حقيقية للحقوق والتمثيل داخل قبة البرلمان". إذ يؤكد النائب زهير الفتلاوي أن "دخول شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى السباق الانتخابي خطوة غير عادية وتمثل بداية وعيٍ جديد داخل المجتمع تجاه مفهوم التمثيل النيابي".

 

ويقول الفتلاوي إن هذه الفئة "ليست أقل من غيرها في القدرة على الفهم والإدارة وصنع القرار، بل إنها الأقرب إلى الواقع؛ لأنها تعيش تفاصيل المعاناة اليومية التي تغيب عن كثير من الساسة"، معتبراً أن "وجود مرشح منهم في البرلمان القادم سيمنح التجربة الديمقراطية بعدا إنسانيا طال غيابه".

 

ويضيف، أن "البرلمان، بمختلف كتلِه، سيكون أمام اختبار حقيقي في كيفية التعامل مع هذه المبادرة، فإما أن يحتضنها باعتبارها خطوة نحو تصحيح الخلل التاريخي في تمثيل الفئات المهمشة، أو يتعامل معها كحدث استثنائي يُترك للوقت كي يُنسى".

 

لكنه رأى أن "المزاج العام داخل البرلمان بدأ يتغير ببطء، وهناك وعي متنام لدى كثير من النواب بأهمية إشراك هذه الفئة في التشريع والرقابة لا كموضوع للمساعدة، بل كشريك في صناعة القرار".

 

أما عن الشارع العراقي، فيعتقد الفتلاوي أن "تقبّل الناس لهذه الفكرة سيكون إيجابيا إلى حد بعيد، خصوصاً في ظل التحولات الاجتماعية التي جعلت العراقيين أكثر وعياً بعد سنوات من المعاناة والحروب".

 

وقال: إن "المواطن اليوم بات أقرب إلى تقييم الكفاءة والنية والصدق، لا إلى المظاهر أو الانتماءات. لذلك من الطبيعي أن يجد مرشح من ذوي الاحتياجات تأييداً واسعاً، لأنه يعبّر عن تجربة حقيقية لا عن خطاب انتخابي تقليدي".

 

ويختم الفتلاوي حديثه بالتأكيد على أن "نجاح مثل هذه التجربة لن يكون انتصاراً لفئة واحدة فقط بل انتصار لفكرة العدالة والمواطنة المتساوية، كي لا يبقى التمثيل في البرلمان حكراً على الأصوات ذات النفوذ أو الامتيازات".

 

ذوو الهمم.. حصيلة الحروب والمعاناة

 

ويأتي هذا الترشيح في وقت حسّاس يواجه فيه العراق تحديات اجتماعية وسياسية كبيرة، ويعكس تطوراً في الثقافة الديمقراطية يضع على المحك قدرة الأحزاب والهيئات السياسية على استيعاب مطالب ذوي الاحتياجات الخاصة وتحويلها إلى تشريعات ملموسة على الأرض.

 

وقبل أن يخوض المرشحون غمار الانتخابات، من الضروري الوقوف على حجم المعاناة، أسباب الإقصاء الطويل، والفرص التي يفتحها هذا التمثيل لأول مرة في تاريخ البرلمان العراقي.

 

ومن هذا المنطلق، يُشير المرشح واثق الجابري. إلى أن "العراق مرّ بسلسلة من الحروب والأزمات المتلاحقة التي تركت آثاراً كارثية على المجتمع، وخصوصا على المواطنين الأكثر ضعفاً".

 

يقول الجابري: إن "الدمار الناتج عن الحروب المتكررة والإرهاب الدموي أدى إلى إصابات جسدية ونفسية غير مسبوقة: فقد فَقَدَ الآلاف من المواطنين بصرهم أو أطرافهم، وأصبحوا عاجزين عن ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي. كما شهدت البلاد موجات كبيرة من العمليات الإرهابية التي أودت بحياة الكثيرين، وتركت آخرين معاقين جسديا ونفسيا، لتصبح هذه الشريحة أحد أكبر فئات المجتمع بلا تمثيل سياسي حقيقي".

 

وأضاف: أن "أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة تضاعفت نتيجة هذه الظروف الصعبة، والواقع أن كثيراً منهم لا يجد من يدافع عن حقوقه أو يضمن له حياة كريمة. كثيرون يفتقرون إلى قوت يومهم، إلى العلاج الضروري، وحتى إلى فرص التعليم والعمل. الفجوة بين ما تنص عليه القوانين وما يُطبق على أرض الواقع ما زالت واسعة، وهذا يضع هؤلاء المواطنين في موقع هشّ".

 

وختم الجابري تصريحه بالتأكيد على أن "هذه التجربة ليست امتيازاً انتخابياً، بل حقّ دستوري وإنساني"، قائلاً: "أنا أدعم هذه المبادرة بالكامل، وأؤمن أنها ستغير طريقة تعامل الدولة والمجتمع مع ذوي الاحتياجات الخاصة، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية الفعلية".

 

عقود من الإقصاء

 

على الرغم من أن القوانين العراقية تنص على حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، فإن السنوات الماضية كشفت عن غياب شبه كامل لمرشحين من هذه الفئة في البرلمان. ويعزو محللون سياسيون واجتماعيون هذا الغياب إلى عدة عوامل مترابطة:

 

1. ثقافة الإقصاء الاجتماعي والسياسي: اعتبرت العديد من القوى السياسية أن ذوي الاحتياجات الخاصة غير قادرين على خوض غمار السياسة أو التأثير في القرار، ما دفعهم إلى التهميش منذ البداية، وحرمانهم من أي فرصة للترشح.

 

2. غياب الدعم المؤسساتي: لم توفر الأحزاب والمنظمات السياسية البنية التحتية اللازمة لتمكين هذه الفئة من المشاركة الانتخابية، سواء عبر برامج تدريبية أو دعم مالي أو لوجستي، مما جعل عملية الترشح صعبة للغاية.

 

3. التحديات اليومية والمعاناة الشخصية: عانى كثير من ذوي الاحتياجات الخاصة من صعوبة الوصول إلى المؤسسات الحكومية، وغياب المرافق المهيأة لهم، وهو ما انعكس على قدرتهم على المشاركة في الحملات الانتخابية والانخراط في الحياة السياسية بشكل فعلي.

 

4. الافتقار إلى الوعي الشعبي والسياسي: لطالما اعتبر المجتمع السياسي أن هذه الفئة تستحق الرعاية فقط، وليس التمثيل في البرلمان، ما أعاق ظهور مرشحين قادرين على كسر هذه الصورة النمطية وبناء قاعدة انتخابية حقيقية.

 

نتيجة هذه العوامل، بقي البرلمان العراقي على مدار عقود يفتقر إلى صوت حقيقي لذوي الاحتياجات الخاصة، لتصبح مشاركتهم رمزية أو شبه معدومة، إلى أن بدأ الوعي يتغير تدريجيا مع ترشح أول شخصية من هذه الفئة في الدورة الانتخابية الحالية.

 

الشاب الطموح حسين الجزائري

 

حسين الجزائري، البالغ من العمر 36 عاما من بغداد، يقدم نفسه كمرشح غير مسبوق للانتخابات النيابية المقبلة، ممثلاً عن فئة ذوي الإعاقة في خطوة تُعد الأولى من نوعها داخل البرلمان العراقي. موظف في وزارة الثقافة والسياحة والآثار، ورئيس منظمة جرعة حياة للرعاية الدولية، وخريج كلية الإعلام قسم الإذاعة والتلفزيون، الجزائري لم يكتفِ بالمناصب الإدارية والإعلامية، بل امتد نشاطه ليشمل صناعة المحتوى وإعداد وتقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية، كونه يرى في الإعلام أداة قوية لتسليط الضوء على قضايا الفئات المهمشة وفتح النقاش العام حول حقوقهم.

 

يقول الجزائري، إن "ترشحه ينبع من تجربة شخصية عميقة عاشها منذ عام 2003، حين بدأت العراق مرحلة جديدة من الحروب والصراعات الطائفية والإرهاب الدموي الذي أدى إلى إحداث أضرار جسيمة في المجتمع".

 

ويضيف: "منذ ذلك الوقت، لم نشهد أي شخص من ذوي الإعاقة يجلس على مقاعد البرلمان، لم نجد ممثلاً حقيقياً يمكنه نقل معاناتنا اليومية إلى دوائر القرار. كثير من الأشخاص المعاقين عاشوا ظروفاً صعبة جداً، فقدوا أطرافهم أو بصرهم، عانوا من صدمات نفسية واجتماعية لم تجد لها الدولة أو المجتمع أي اهتمام حقيقي".

 

ويؤكد الجزائري، أن "الحياة اليومية لذوي الإعاقة مليئة بالعقبات والممارسات التمييزية، من الطرق غير المهيأة، والمرافق العامة غير المجهزة، إلى غياب النوافذ الخاصة في المؤسسات الحكومية، وغياب سياسات واضحة لتسهيل تنقلهم واستقلالهم. ويضيف: "نحن لا نريد مجرد راتب إعانة أو دعم شكلي، بل نريد طرقا سالكة ومعبدة، مكاتب مجهزة، بيئة كاملة تمكننا من التحرك والعمل والاندماج في المجتمع دون الحاجة لمرافقين أو مساعدة مستمرة. هذا الحق الطبيعي لأي مواطن، وليس منّة أو امتيازاً".

 

من الناحية الصحية والخدمية، يشير الجزائري إلى أن "20% فقط من المؤسسات تقدم خدمات أساسية لذوي الإعاقة، بينما البقية لا تهتم إلا بالشعارات أو الدعم الظاهري، ويبين: أن "البرلمان المقبل يجب أن يكون ملتزماً ليس فقط بالقوانين، بل بتفعيلها بشكل عملي، وتوظيفاً سنوياً يضمن المساواة مع غيرهم، وفتح منتديات ثقافية، نوادي للمواهب، ومساحات فعلية لإدماجنا في المجتمع، لأننا مواطنون من الدرجة الأولى، وليس لدينا أقلية حقوقية أو اقتصادية".

 

ويشير الجزائري إلى أن "الفجوة المجتمعية والنظرة السطحية لذوي الإعاقة تمثل تحديا إضافياً، حيث لا يزال الكثيرون يعتبرون الشخص المعاق غير قادر على المشاركة الفاعلة أو الإنتاج، أو يرونه عبئا على المجتمع، بينما الواقع مختلف تماما: "ذوي الإعاقة يمتلكون مواهب وقدرات متعددة، وهم قادرون على ممارسة المهن، الإبداع، والمشاركة في الحياة العامة بفعالية، لكن المجتمع حتى الآن يفتقر إلى أسلوب التعامل الصحيح، ويكرس له نظرة دونية تجعله يشعر وكأنه مواطن من الدرجة الثانية".

 

ويختتم الجزائري حديثه بالتأكيد على: أنه "في حال تمكنا من الفوز، سنقترح قوانين واضحة تخص ذوي الإعاقة، تشمل زيادة فرص التمثيل داخل البرلمان، فتح بيئة حقيقية للعمل والتعليم، وضمان حصولهم على حقوقهم الصحية والاجتماعية والخدمية. نريد أن يعيش كل شخص من ذوي الإعاقة حياة طبيعية كاملة الحقوق والفرص، وأن يشعر أنه جزء فاعل ومؤثر في المجتمع، لا مجرد متفرج أو مستفيد شكلي من الدعم".

 

أمل على كرسي متحرك

 

مريم، من مواليد 1996، تحمل في جسدها وذاكرتها أثر حادث مأساوي غيّر حياتها منذ صغرها. في عام 2006، كانت ترافق والدها في أحد شوارع بغداد، ليقلب انفجار إرهابي حياتها رأسا على عقب. استيقظت لتجد يدها مبتورة، وذاكرة ممتلئة بالدمار والصمت الموحش للحظة.

 

تروي مريم بصوت يملؤه الصمود: "كنت صغيرة كل همي ألعب وأتعلم، لكن بعد الانفجار تغيرت حياتي كلها. تعلمت أكتب باليد الثانية، أكملت دراستي، ورفضت أن أبقى محبوسة في حدود الألم. عندما أرى حسين يدخل البرلمان، أرى بصيص أمل.. بقوانين تحمينا وتدعمنا ونعيش بكرامة".

 


مينا القيسي

نُشرت في الجمعة 7 نوفمبر 2025 03:45 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.