يشهد العراق، واحدة من أخطر الأزمات المالية في تاريخه الحديث، حيث تتزايد المخاوف من عدم قدرة الدولة على تأمين رواتب موظفيها والمتقاعدين على حدّ سواء، وتتجلى هذه الأزمة في هشاشة السيولة النقدية، وتأخر صرف الرواتب، واعتماد الموازنة العامة بشكل شبه كامل على عائدات النفط، مع غياب بدائل اقتصادية حقيقية واستثمارات فعّالة، وهذا ما قاد إلى تحقق نبوءة الجلبي عام 2014، فماذا جاء بها؟
في 22 كانون الثاني 2014، كان السياسي العراقي الراحل أحمد الجلبي يطلق تحذيراته حول مستقبل العراق المالي، في ندوة تناولت ملفات الأمن والخدمات والفساد والإسكان.
وأشار الجلبي في الندوة التي ترأسها، إلى أن "الفساد المالي في العراق وصل إلى مراحل أسطورية، وأنه لم يحدث في كل العالم".
وذكر الجلبي في معرض حديثه عن الفساد المالي، أن "العجر في الشركة العامة لتجارة المواد الغذائية، وبحسب ديوان الرقابة المالية، بلغ نهاية 2010 في الشركة بمفردها كان 2 ترليون و628 مليار دولار، ما يعادل مليارين وربع دولار، أي ما يكفي لبناء 2000 مدرسة وما يكفي لبناء 50 ألف بيت".
وأشار الجلبي في تلك الندوة إلى أن "كمية الفساد في شركة واحدة بوزارة واحدة، يؤكد أن الفساد ينخر في مستقبل الشعب العراقي"، مبيناً أن "الاعتقاد بأن جريان النفط، يعني تدفق الأموال إلى ما لا نهاية، اعتقاد سيء وخطير".
وأوضح الراحل الجلبي في الندوة التي عقدت عام 2014 أن "العراق أمامه 5 سنوات فقط لتعديل النظام الاقتصادي، وإذا مرت السنوات الخمس ولم تفعل الحكومات شيئاً، سنقرأ على العراق السلام".
وشدد الجلبي على ضرورة "البدء بالإنفاق الحقيقي للتنمية وعدم الاعتماد على النفط بنسبة 95%، بينما في دول مثل الإمارات تعتمد بنسبة 32% على أموال النفط والغاز في الموازنة العامة، وبقية التمويل من النشاطات الاقتصادية الأخرى في الدولة".
وتوقع الجلبي منذ عام 2014، أنه في الـ10 سنوات المقبلة، "ستعجز الحكومات العراقية عن دفع رواتب المتقاعدين، بسبب سوء الإدارة المالية"، موضحاً أن "بحث الشباب على التوظيف وليس العمل سيقود البلاد إلى الدمار".
الواقع المالي للعراق
اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات على تحذيرات الجلبي، يعيش العراق واقعاً مالياً هشاً يهدد بشكل مباشر قدرة الدولة على دفع رواتب موظفيها والمتقاعدين، ويعكس هذا الواقع الأزمة التي تواجهها وزارة المالية في توفير السيولة النقدية اللازمة لصرف الرواتب، خصوصاً بعد انخفاض أسعار النفط عالمياً، واعتماد الموازنة العامة بشكل شبه كامل على العائدات النفطية.
وبهذا الصدد، أكد الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، أن التأخير الأخير في صرف الرواتب لا يتعلق بعطلة رسمية، بل بنقص السيولة المالية لدى وزارة النفط، حيث تكفي الإيرادات بالكاد لتغطية الالتزامات التشغيلية والاستثمارية، وهو ما يجعل الوضع المالي للحكومة هشاً للغاية.
وقال المرسومي في تدوينة على منصة "إكس" تابعتها "الجبال"، إن "استمرار انخفاض أسعار النفط دون 70 دولاراً للبرميل سيجعل الأزمة مستمرة، وربما تضطر الحكومة المستقبلية لاتخاذ إجراءات صعبة تؤثر على معيشة المواطنين، مثل تقليص الدعم أو رفع سعر صرف الدولار مقابل الدفع".
ويعكس واقع المتقاعدين هذا التحدي المالي بوضوح، إذ يقول "أبو مازن" من واسط لمنصة "الجبال" إن "راتبه التقاعدي لا يكفي لتغطية احتياجات الأسرة، وإن التأخير أو الاستقطاع يجعله يعيش في ضغوط اقتصادية كبيرة، خصوصاً وأن هذا الراتب هو مصدر دخله الوحيد".
فيما تشير السيدة أم علي لـ"الجبال، إلى أن "ارتفاع الأسعار وانخفاض الرواتب يجعلها أحياناً مضطرة للاستدانة لتغطية مصاريف الأسرة"، مؤكدة أن المتقاعدين يعيشون واقعاً معيشياً مريراً رغم التزامهم بقوانين التقاعد".
أزمة السيولة المالية وصندوق التقاعد
في خضم ذلك، كشف المركز العراقي الاقتصادي السياسي، عن وجود أزمة سيولة مالية تقف وراء تأخير صرف رواتب المتقاعدين لهذا الشهر، متهماً الحكومة بعدم الاعتراف بوضوح بالأزمة المالية التي تواجه البلاد.
وقال مدير المركز وسام حدمل الحلو في بيان تلقته "الجبال"، إن "مركزه يتلقى الكثير من الاتصالات والاستفسارات حول سبب عدم توزيع رواتب المتقاعدين رغم انتهاء الموعد المعتاد لصرفها".
وأضاف أن "الصمت والحيرة والاستغراب تصدر من شريحة كبيرة من المتقاعدين وعوائلهم الذين لديهم التزامات متعددة، منها ما يتعلق بوضعهم الصحي أو ارتباط تفاصيل معيشتهم بما يصلهم من خلال الراتب الشهري المحدد".
وأشار الحلو إلى "تناقض بين البيانات الاقتصادية الإيجابية التي تصدرها الحكومة العراقية وواقع إدارة الجانب المالي للبلد"، متهماً السلطات بـ"عدم الاعتراف الواضح بوجود نقص في السيولة المالية في البلد".
وأوضح أن "الموضوع بدأ يتكرر في أكثر من فترة، رغم نفي وزارة المالية والبنك المركزي العراقي بذلك"، داعياً إلى "الوقوف على الأسباب الحقيقية والعمل على تحقيق سياسة مالية تطمئن شريحة كبيرة من مخاوف حقيقية بدأت تظهر إلى العلن".
وترجع مصادر اقتصادية، الأزمة الحالية إلى عوامل عدة، أبرزها تقليص الولايات المتحدة الحصة المالية المخصصة للعراق عبر البنك الفدرالي، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط وغياب بدائل اقتصادية حقيقية، ما أدى إلى فجوة قاتلة في السيولة المالية، بينما يدفع المتقاعدون الثمن المباشر للعجز المالي والاعتماد الكلي تقريباً على النفط كمصدر دخل للدولة.
وبالتوازي، أثار موضوع مصير "صندوق التقاعد" الكثير من الجدل مؤخراً، بعد صدور قرار حكومي بإلغاء نظامه السابق لسنة 2008 واستبداله بنظام داخلي جديد لهيئة التقاعد، وهو إجراء دفع البعض إلى التحذير من أن أموال الصندوق قد تصبح مرهونة بتخصيصات وزارة المالية ومرتبطة مباشرة بواردات النفط.
غير أن مسؤولين ونواباً، من بينهم النائب معين الكاظمي، شدّدوا على أن "الصندوق لم يُلغَ فعلياً"، حيث قال لـ"الجبال" إن "ما جرى هو إعادة تنظيمه، وإن التوقيفات التقاعدية التي تُستقطع من رواتب الموظفين ما زالت تُودّع فيه، مع استمرار وزارة المالية في دعمه شهريا بما يقارب التريليون دينار لتغطية الالتزامات".
أرقام توضح حجم الأزمة
وفق بيانات وزارة المالية والتقارير الاقتصادية، يبلغ عدد المتقاعدين في العراق نحو 1.5 مليون متقاعد، ويتوزعون بين متقاعدي الخدمة المدنية والقطاعين العسكري والمدني.
ويبلغ حجم الرواتب السنوية المخصصة للمتقاعدين نحو 18 تريليون دينار عراقي، أي ما يقارب 12 مليار دولار، وهو مبلغ كبير نسبياً مقارنة بإجمالي الموازنة التشغيلية البالغة نحو 150 تريليون دينار سنوياً، لكن مع انخفاض أسعار النفط والاعتماد شبه الكامل على الإيرادات النفطية، تصبح هذه الالتزامات عبئاً كبيراً على الحكومة.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى، أن التوسع السنوي في قائمة المتقاعدين دون وجود مصادر تمويل مستدامة للصندوق، إضافة إلى تركيز الإنفاق العام على الرواتب والدعم، يزيد من هشاشة الموازنة التشغيلية، ويجعل الدولة أكثر عرضة لأي اضطرابات في أسواق النفط، وهو ما ينعكس مباشرة على حياة ملايين المواطنين.
كما يؤكد خبراء أن أصل المشكلة يكمن في غياب استثمارات فعّالة لأموال صندوق التقاعد، ما يجعل الصندوق يعتمد بشكل شبه كامل على الموازنة العامة بدلاً من أن يكون رافداً مالياً مستقلاً كما هو الحال في معظم الدول المتقدمة.
وبهذا الشأن، يشير رئيس جمعية المتقاعدين العراقيين، مهدي العيسى، إلى أن "التوقيفات التقاعدية المستقطعة من الموظفين كان يفترض أن تضمن سيولة كافية لصرف الرواتب في مواعيدها، كما كان يجب استثمار أموال الصندوق لضمان استدامة التمويل".
وقال العيسى لـ"الجبال": إن "اقتصار شمول الصندوق على من تم تعيينهم بعد 2008 يفتقد العدالة تجاه المتقاعدين القدامى الذين ساهموا طوال سنوات خدمتهم، وأن وزارة المالية تتأخر عادة في إطلاق التمويل المخصص للهيئة رغم إنجازها معاملات الصرف".
خطر توقف الرواتب
يقول الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه، إن "الواقع المالي للعراق يظهر مؤشرات مقلقة توحي بوجود شح فعلي في السيولة بالدينار، خلافاً لما تعلنه وزارة المالية".
وأرجع عبد ربه، التأخير، إلى عدة عوامل، منها "بطء تحويلات الدولار إلى الدينار، واحتفاظ المواطنين والمستثمرين بكميات كبيرة من النقد خارج الجهاز المصرفي، والاعتماد المفرط على النفط، مما يضع انتظام صرف الرواتب في خطر دائم".
كما حذّر من أن "استمرار التوسع السنوي في قائمة المتقاعدين دون تمويل مستدام قد يؤدي إلى توقف جزئي أو كامل للرواتب في المستقبل القريب".
ودعا عبد ربه إلى "حلول عملية تشمل توسيع قاعدة التمويل لصندوق التقاعد، وتحفيز المواطنين على إيداع أموالهم في البنوك لضمان دوران السيولة، مع ضرورة التنسيق بين وزارة المالية والبنك المركزي لوضع جدول آلي لصرف الرواتب يمنع أي تأخير مستقبلي، واستثمار أموال الصندوق بشكل فعّال لتكون رافداً مالياً مستقلاً للدولة".
ويرى عديدون أن هشاشة الموازنة العامة وعدم وجود مصادر دخل متنوعة تجعل الدولة في مواجهة مستمرة مع تحديات اقتصادية كبيرة، ويبرز ذلك بوضوح من خلال أزمة تأخر صرف الرواتب والمتقاعدين، فغياب الاستثمارات وتنويع مصادر الدخل، واعتماد الموازنة على النفط بشكل شبه كامل، يجعل الحكومة عرضة لأي أزمة اقتصادية أو سياسية، وهو ما يهدد حياة ملايين العراقيين يومياً.
والعراق، بعد أكثر من عشر سنوات على تحذيرات الجلبي، لا يزال أمام تحدٍ كبير يكمن في تحقيق الاستقرار المالي عبر إصلاح النظام الاقتصادي، تنويع مصادر الدخل، وضمان استدامة صندوق التقاعد، وإلا فإن الأزمة المالية الحالية ليست مجرد أزمة مؤقتة، بل هي مؤشر على خطر طويل الأمد يهدد قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، بحسب مختصين.