معركة العراق الأساسية: استعادة السيادة الاقتصادية

معركة العراق الأساسية: استعادة السيادة الاقتصادية أموال عراقية (تعبيرية/ أرشيف)

في السجال حول خضوع العراق للنفوذ الخارجي، يتبارى عادةً طرفان: الأول يدافع عن ارتهان العراق للقرار السيادي الإيراني، والثاني يبرر اتجاه العراق نحو أمريكا، مستفيداً من الذراع الأمريكية لسحب العراق من مستنقع إيران ومشاكلها وحروبها في المنطقة.

 

المسألة هنا لا تتعلّق بالمقارنة بين النموذجين السياسيين الأمريكي والإيراني، ولا فيما يمثله الخضوع لنظام مغلق أصولي تسلطي كإيران، أو الإعجاب بالديمقراطية الأمريكية. المشكلة لا تتعلق بطبيعة النظامين، بل بعلاقة العراق بهما. ليس كل الأنظمة السياسية للبلدان المجاورة للعراق أو في أرجاء العالم الأخرى مثالية. على سبيل المثال؛ العالم كله تقريباً يملك علاقات اقتصادية قوية مع الصين، رغم أنها دولة غير ديمقراطية تنتهك حقوق الإنسان بشكل معتاد. لكن التعامل مع الصين شيء، والخضوع لها شيء آخر.

 

يخضع العراق لتأثيرين قويين من إيران وأمريكا، ولتحييد التأثير السلبي لهذا الخضوع، يحتاج العراق إلى بناء قرار سيادي يضع استراتيجية للتخلص من هذا التأثير، مع الحفاظ على البعد الطبيعي لعلاقته بهذين البلدين، فالقطيعة لا تخدم مصلحة العراق. التأثير الإيراني السلبي واضح ومعروف، وهناك مؤشرات كثيرة توحي بانحساره في الفترة المقبلة. لكن، هل يعني ذلك الارتماء في الحضن الأمريكي؟

 

التأثير الأمريكي معقّد، لا يقتصر على الجانب الأمني والعسكري فحسب، بل يمتد إلى مشكلة عميقة تتعلق بديون العراق. فقد سُلب جزء أساسي من سيادة العراق بعد غزو الكويت عام 1990 ولم يُستعد بالكامل حتى الآن. فمنذ ذلك التاريخ، فقد العراق سيادته المالية والاقتصادية، وأُثقل بالديون الجسيمة بسبب الحرب.

 

ورث العراق بعد 2003 أكثر من 120 مليار دولار من الديون المتراكمة، ثم تم التوصل إلى تسويات مع نادي باريس والدائنين التجاريين خفّضت الجزء الأكبر منها، فيما بقيت تعويضات الكويت حتى سدادها النهائي عام 2022. لكن هذه المعالجات لم تنهِ جذور الأزمة، إذ ظل العراق محكوماً بآلية "الحماية الأمريكية" لأمواله في الخارج، لا سيما عوائد النفط المودعة في البنك الفدرالي الأمريكي.

 

تستند هذه الحماية إلى قرار مجلس الأمن 1483 (2003) والأمر الرئاسي الأمريكي 13303، اللذين وفّرا حصانة لأموال العراق وعائداته النفطية من أي حجوزات قضائية. ورغم إنهاء مجلس الأمن ترتيبات "صندوق تنمية العراق" عام 2011، فإن واشنطن ما زالت تجدد سنوياً "حالة الطوارئ" التي تبقي هذه الحماية سارية. عملياً، يعني ذلك أن الدولار العراقي يمر عبر بوابة الاحتياطي الفدرالي، حيث تخضع التحويلات لرقابة صارمة، ويُمنع عدد من المصارف العراقية من التعامل بالعملة الأمريكية كلما شُك في نزاهة نشاطها.

 

هذه الحماية ليست خدمة مجانية، بل سيف ذو حدين. فهي من جهة تحمي العراق من دعاوى الدائنين أو مطالبات التعويض، لكنها من جهة أخرى تبقي شريان العراق المالي تحت رقابة أمريكية مباشرة. يكفي قرار من وزارة الخزانة لتجميد أو تقليص التدفقات، مما ينعكس فوراً على السوق العراقي.

 

الخروج من هذه الحلقة يتطلب استراتيجية مزدوجة: أولاً، بناء إدارة دين شفافة تقلل الاعتماد على الاقتراض الخارجي، وتعيد هيكلة المديونية المحلية. وثانياً، تنويع مصادر العملة الصعبة لتقليل الارتهان لعوائد النفط المحصورة بالدولار الأمريكي. وبغير ذلك، سيظل العراق واقفاً على أرض رخوة، محكوماً بميزان السياسة الأمريكية أكثر مما تحكمه خياراته الاقتصادية المستقلة.

 

إن المعركة الحقيقية للعراق في المستقبل هي معركة اقتصادية تتطلب قراراً سيادياً وإدارة فعّالة للزمن، الذي أُهدر الكثير منه خلال السنوات الماضية في مواجهات عقيمة حوّلت العراق إلى ساحة صراع أمريكية-إيرانية، وأبقت الوضع السياسي والأمني والاقتصادي في حالة شلل، أو ما يشبه الموت السريري. فالطرف الإيراني في الصراع لا يريد للعراق أن يموت، بل أن يستمر في حالة ضعف مرضي، مستفيداً من حياة الجسد العراقي واستمرار تدفق الأموال إليه، لكنه يستفيد أيضاً من ضعفه (تفكك الدولة) لاستخدام البلد كمرآب خلفي.

 

أما الجانب الأمريكي فهو غير معني بتعافي العراق بقدر اهتمامه بأن يكون له دور وظيفي في مواجهات أمريكا داخل المنطقة، وألّا يتحول العراق إلى أرض عدائية.

 

المفقود، في المنتصف، هو القرار السيادي العراقي، الذي يجفف الحروب العبثية الجانبية ويركز على الحرب الكبرى: كيفية إنعاش الاقتصاد وتنويعه والتخلص من تركة الديون الدولية الثقيلة.

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 5 سبتمبر 2025 10:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.