حربٌ داخل الإطار التنسيقي

حربٌ داخل الإطار التنسيقي قادة الإطار التنسيقي في اجتماع (أرشيف)

كلّ الأحداث المتلاحقة في العراق خلال الأشهر الماضية تشير بوضوح إلى أزمة داخلية داخل "الإطار التنسيقي" الشيعي، قبل أن تكون أزمةً داخل العراق بمجمله. وهي أزمة تتعلّق بضرورة أن تتجاوب القوى داخل هذا الإطار مع المتغيّرات الإقليمية والدولية الراهنة، وأن قواعد اللعبة السابقة، التي أتاحت سيطرةً مريحة لهذه القوى، قد تغيّرت الآن.

 

إن المتغيّرات الجديدة تنادي، في واقع الحال، على قوى جديدة في العراق يجب أن تتصدّر المشهد؛ لكن القوى التقليدية، بما فيها الأحزاب والكيانات المشكّلة للإطار التنسيقي، عملت بقوّة على منع ولادة الجديد، بل هي غير قادرة على "استحداث" خطٍّ جديد من داخلها يمكن أن تصدّره إلى الواجهة، وتحتمي هي خلفه من أي تداعياتٍ سلبية ضدّها.

 

هناك تدليس كبير في الخطابات التي تحصر المشكلة العراقية الراهنة بثنائية غير واقعية؛ أن المطلوب من العراق أن يطبّع مع الكيان الإسرائيلي لكي ترضى عنه أميركا، فالتطبيع بحدّ ذاته لا ينقل البلد المطبِّع من خانةٍ إلى أخرى، وأبرز مثال على ذلك السودان؛ إذ إن القوّتين المتصارعتين فيه اليوم، واللتين أحالتا السودان إلى ركامٍ حقيقي، هما مطبّعتان مع إسرائيل. وسنجد في قائمة الدول المطبّعة حول العالم الكثير من البلدان الفاشلة، والتي تعاني من صراعات داخلية لم تُنقذها منها لا إسرائيل ولا أميركا، لأن المشكلة لا تتعلّق بعصا سحرية يجلبها التطبيع، وإنما بأزماتٍ داخلية تخصّ البلد نفسه.

 

بعد أن كانت مشكلة الأحزاب والتيارات الإسلامية الشيعية مع "الآخر" داخل الوطن، من مكوّنات وتيارات، صارت الآن بين أجنحتها هي؛ فمن الواضح أن هناك جناحين شيعيّين: أحدهما يميل إلى اتخاذ مواقف متشدّدة أو يرغب في إبقاء المواضعات السابقة التي حكمت الساحة العراقية، والآخر يريد التجاوب مع المتغيّرات الإقليمية والدولية، وإنقاذ العراق من أي مواجهةٍ لا معنى لها قد ترجعه إلى الخلف عقوداً.

 

وقفت أميركا مع كلّ القوى الإسلامية الشيعية، معتدلِها ومتشدّدِها، في الحرب ضدّ الإرهاب، وسمحت للمليشيات الشيعية بالتمدّد في صلاح الدين والموصل والأنبار، بل وسمحت لقياداتٍ في الحرس الثوري بأن تتجوّل بحرية في الجغرافيا العراقية، لأن هناك هدفاً مشتركاً: الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". ولم تُفصح أميركا، خلال ذلك، عن أي نوايا لتغيير التركيبة الاجتماعية للسلطة أو تغيير النظام الديمقراطي، بل إنها دعمته في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وقالت للشباب الثائر وقتها إنه لا مجال لأي ثورة في عراق اليوم، وعليكم الذهاب إلى صناديق الاقتراع لإحداث التغيير الذي تطلبونه.

 

كانت أميركا تريد من كلّ القوى العراقية، سنيّة أو شيعية أو كردية، شيئاً واحداً: ألّا تُتاح الفرصة لأي قوى مسلّحة تهاجم المصالح الأميركية في العراق، وألّا يتحوّل العراق إلى بلدٍ عدوّ للولايات المتّحدة، وألّا يكون مصدراً للتهديد والخطر على دول الجوار الصديقة لها.

 

لم تُمانع أميركا قيام علاقاتٍ فعّالة ومثمرة بين العراق وإيران، بدليل أنها كانت تمنح استثناءً سنوياً من العقوبات لشراء الغاز الإيراني، كما أنها لم تتدخّل في أي عقود أو ترتيبات تجارية واقتصادية بين الجانبين العراقي والإيراني.

 

يدرك الجناح المعتدل داخل الإطار هذه الحقيقة ويتصرّف على ضوئها، ويعرف أن تهدئة المخاوف الأميركية لن تؤثر على أي علاقة وطيدة وقويّة مع إيران، على وفق قواعد حسن الجوار والتعامل بالمثل بين الدول. إلا أن الجناح المتشدّد يدرك أن تقوية هذا الخيار تعني نهايته، ونهاية مصالحه واستثماراته داخل العراق. وكانت الظروف السابقة تسمح بتجاور الخطّين المعتدل والمتشدّد والسير في مركب واحد، لكن عالم ما بعد السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية الإيرانية الصريحة، فرض قواعد جديدة، ولم يعد هذا التجاور في سريرٍ واحد ممكناً.

 

إن ضرب حقل كورمور الغازي، مثلاً، أو إفشاء قرار لجنة تجميد أموال الارهابيين في صحيفة الوقائع العراقية، هما جولتان من المواجهة بين الجناحين المتشدّد والمعتدل داخل الإطار التنسيقي. ولا يبدو أن الظروف ستسمح بتخفيف التوتّر في هذه المواجهة؛ فإمّا أن ينتصر المعتدلون ونعبر إلى ضفّةٍ جديدة، أو تنفتح هوّةٌ لن يسقط فيها الإطار التنسيقي وحده، وإنما البلد بأكمله.

 


أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 5 ديسمبر 2025 10:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.