مع استعداد القوات الأميركية لإنهاء وجودها بشكل كامل في المحافظات العراقية باستثناء إقليم كوردستان، تأتي المخاوف وتبرز في المدن السنية، التي تخشى من عودة سيناريوهات التنظيمات المتطرفة، وتكرار ما حصل في صيف 2014، عندما سيطر تنظيم "داعش" على مساحة تقدر بثلث البلاد، بعد الانسحاب الأميركي نهاية عام 2011.
يأتي ذلك مع بدء تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق، عبر مغادرة أول قوة أميركية من قاعدة الأسد في الأنبار باتجاه أربيل، واتجاه جزء منها للكويت، وآخر نحو قاعدة التنف في سوريا، على مراحل تستمر حتى أيلول سبتمبر 2026، لتحقيق الانسحاب الكامل.
يشار إلى أن "قرار سحب جزء من القوات الأميركية جاء خلافاً للجدول الزمني الذي كان قد تم الاتفاق حوله بشأن الانسحاب التدريجي للقوات، والذي كان من المفترض أن يجري بعد إجراء الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني المقبل"، حيث يرجح مختصون في الشأن السياسي أن "يكون رد فعل من الإدارة الأميركية تجاه موقف العراق المنحاز إلى إيران خلال الفترة الماضية".
وأشارت تقارير صحافية مختلفة إلى أن الانسحاب الأميركي قد يخلق فراغاً أمنياً في المدن السنية، مما قد يأتي بمخاطر حول إمكانية عودة نشاط تنظيم "داعش"، كما حدث في عام 2014 عندما احتلت الموصل ومدن أخرى.
حرب داخل الأنبار
بهذا الصدد، يؤكد مستشار لجنة الأمن والدفاع في مجلس محافظة الأنبار عبد الله الجغيفي أن هناك جملة مخاوف من الانسحاب الأميركي، وتأثيرات على المدن السنية.
ولفت خلال حديث لمنصة "الجبال" إلى أن "الانسحاب الأميركي قد يفتح تغرات جديدة أمنية، تستغلها التنظيمات الإرهابية، ومنها تنظيم داعش، الذي ما زال ينشط في عدد من الوديان والصحراء، وبسبب عدم وجود غطاء جوي للقوات العراقية، فقد يتيح الأمر لداعش، تطور وجودها، وظهورها على الأرض بقوة".
وأضاف أن "هناك خشية من أن تتحول المعركة بين القوات الأميركية والفصائل المسلحة إلى داخل الأنبار، وتحديداً على الشريط الحدودي مع سوريا، بعد انسحاب الجزء الأكبر من تلك القوات إلى قاعدة التنف، بالتالي انسحابها سيمهد الطريق لاستهداف الفصائل وقادتها بشكل كبير".
لا تأثيرات أمنية
من جانب آخر يرى رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة نينوى محمد جاسم الكاكائي أن "الوضع الأمني في المحافظات السنية في أحسن صوره، ولا يوجد أي مؤشر على عودة التنظيمات المتطرفة".
وأوضح الكاكائي في حديث لـ "الجبال" إن "الثغرة الأمنية التي كان يستغلها داعش وباقي التنظيمات المسلحة، كانت من خلال سوريا، لكن الوضع على الحدود مؤمن بشكل كبير، ولم يحصل أي خرق، منذ التغيير الذي حصل في سوريا".
وأشار إلى أن "التعاون الأمني بين العراق وسوريا، فضلاً عن تغيير في القناعات، والتعامل المثالي للأجهزة الأمنية مع أبناء نينوى، وباقي المحافظات السنية، كلها عوامل، تجعل من الصعب ظهور التنظيمات الإرهابية"، لافتاً إلى أن "الوضع اختلف جذرياً عن عام 2014، فلم تعد هنالك حواضن، ولم تعد تتوفر الظروف التي مهدت لظهور داعش، وأهالي المدن السنية مشغولين بالأعمار وحركة البناء وتطوير مدنهم".
وتابع أن "الأجهزة الأمنية تطورت بشكل كبير، من الناحية الاستخباراتية، ومن ناحية التجهيز، وداعش لم يعد بمقدوره شن هجمات بهذا الشكل الواسع، والشريط الحدودي مؤمن استراتيجياً، ولا يمكن اختراقه إطلاقاً ولن تتأثر مدننا بالانسحاب الأميركي أبداً".
وشهدت المدن السنية في 2011، بعد انسحاب القوات الأميركية، تصاعداً في الهجمات التي عجزت القوات الأمنية العراقية عن مواجهتها، مما اضطر الحكومة إلى طلب المساعدة والدعم من الولايات المتحدة مجدداً، بعد دخول تنظيم داعش إلى عدد من المدن، ومنها الأنبار وأجزاء من نينوى، التي سيطر عليها بالكامل في حزيران عام 2014.
وأطلقت السفارة الأميركية في العراق، تحذيراً من توسع الأنشطة التي يقوم بها تنظيم "داعش في العراق وسوريا"، وأعربت في بيان على منصة "إكس"، عن قلقها العميق "إزاء العمليات المستمرة والتوسعات الإقليمية لتنظيمي داعش في العراق والشام، والقاعدة، كما تشيّد الولايات المتحدة بالدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي واصلت الضغط لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا والصومال، الأمر الذي حدّ من عمليات داعش".
وتنشط الفصائل المسلحة القريبة من إيران بشكل كبير في المدن السُنية، خاصة في محافظتي نينوى والأنبار، ولديها مقرّات كبيرة، وتواجد على الأرض، الأمر الذي يثير المخاوف من استغلال تلك الفصائل للانسحاب الأميركي، لتعزيز وجودها في تلك المدن، وتقوية نفوذها الأمني والإداري.
الجو مفتوح والإسناد سيختفي
في سياق آخر، يرى الخبير العسكري أعياد الطوفان أن الانسحاب الأميركي من العراق ستكون له عدة تأثيرات جانبية.
وبين خلال تغريدة له في موقع "إكس" إنه "سنقول وداعاً للإسناد الجوي بشقيه الحربي والسمتي، ووداعاً للجهد الاستخباري الإلكتروني المتطور، ووداعاً للدعم اللوجستي للطائرات والدبابات العراقية، وستكون أجوائنا وسيادتنا الجوية مباحة لمن هب ودب".
أما وزير الدفاع العراقي السابق جمعة عناد فيؤكد أن الإمكانيات العسكرية للقوات الأمنية العراقية ما تزال محدودة، وخاصة في المجال الجوي.
وذكر عناد في حديث لـ "الجبال" أن "قدرات تنظيم داعش ماتزال قوية، وهناك تحركات كبيرة في الصحراء، وخطر كبير قادم من سوريا، بالتالي سيكون العراق (كله) بما فيه المدن السنية تحت تأثير مخاوف الانهيار الأمني، بعد الانسحاب الأميركي، كما حصل بعد عام 2011"، مضيفاً أنه "كان ينبغي الاستفادة قدر الإمكان من الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة، في تعزيز قدرات الجيش العراقي، والقوة الجوية، وتطهير الصحراء بالكامل، قبل بدء الانسحاب".
في سياق متصل، يؤكد الباحث في الشأن السياسي والأكاديمي في جامعة الأنبار، فلاح العاني، أن المدن السنية ستكون هي الأكثر تأثراً بالانسحاب الأميركي.
وقال في حديث خص به "الجبال" إن "الكورد يتمتعون بالاستقلالية، وجزءاً من القوات الأميركية سيبقى في أربيل، ولديهم قوات بيشمركة، وقوة مسلحة. والشيعة بيدهم السلطة، وتدعمهم إيران، ولديهم السلاح النفوذ. أما السنة، فليس لديهم استقلالية، وهناك تهديدات مستمرة من التنظيمات المتطرفة".
وأشار العاني إلى أن "ساحة المدن السنية ستكون مكشوفة، فليس لديهم سلاح، ولا قوة، ولا من يحميهم، كما كانت تفعل سابقاً القوات الأميركية الموجودة في قاعدة عين الأسد، من خلال القوة الجوية التي تمتلكها، ومنظومة المراقبة وطائرات الاستطلاع".
وأردف: "سياسياً سيكون السنة هم الحلقة الأضعف، خاصة إذا لم تحصل أي حرب بين إيران والولايات المتحدة، وعززت طهران من ثقلها في المنطقة، بالتالي فإن الفصائل المرتبطة بها ستقوي وجودها، وتعزز انتشارها في الأنبار وباقي المدن السنية، وتبسط سيطرتها بالكامل".
الشيعة هم الخاسر الأكبر
من جهة أخرى، يقول النائب في البرلمان والقيادي في تحالف عزم طلال الزوبعي، إن السنة لن يخسروا بعد الانسحاب الأميركي، والخاسر الأكبر هذه المرة هم المكون الشيعي، موضحاً في حديثه لـ "الجبال" أن "السنة استوعبوا الدرس، بعد الأخطاء التي وقعوا فيها بعد عام 2003، من خلال رفضهم الانضمام للمؤسسة الأمنية والعسكرية، وعدم المشاركة في الانتخابات، ولن يكرّروا تجربة بعد عام 2011، عندما انسحبت القوات الأميركية، ودخلت داعش إلى مناطقنا".
وأكمل، "سياسياً سيكون الشيعة هم الخاسر الأكبر، كون الانسحاب الأميركي سيعطي الضوء الأخضر لمن يريد أن يستبيح العراق، ويقصف الفصائل المسلحة، وتحديداً هنا نتحدث عن إسرائيل، لأن الوجود الأميركي كان هو الضامن لعدم إنهاء النظام السياسي"، مؤكداً أن "السنة هم شريك أساسي قوي، وينظر لهم المجتمع الدولي باحترام، والخوف فقط من التناحر فيما بين الأحزاب والزعامات السنية، ما يؤدي ذلك لإضعاف المكون بعد الانتخابات، أو تطورات المرحلة المقبلة، والصراع في المنطقة".
وكان مستشار رئيس الوزراء حسين علاوي، قد ذكر في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية أن "الحكومة العراقية ملتزمة بالمنهاج الحكومي، عبر بناء القوات المسلحة وإنهاء مهام التحالف الدولي، ونقل العلاقات الأمنية مع دولة التحالف الدولي إلى علاقات دفاعية ثنائية مستقرة تحكم في ضوء العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي تنفيذ الاتفاق بين العراق ودول التحالف الدولي ماضي نحو الأمام".
أما محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي فيرى أن من الناحية السياسية لا يوجد خوف على مستقبل السنة، وإنما الخوف فقط من الجانب العسكري والأمني.
وشدد النجيفي في حديث لـ "الجبال" على أن "الخوف فقط هو من حصول انهيار أمني، يتسبب بفوضى وكارثة كبيرة، كما حصل في 2014، نتيجة عدم وجود قراءة صحيحة، لقدرة الأجهزة الأمنية العراقية".
وأشار إلى أنه "سياسياً، سيقوي الانسحاب الأميركي مستقبل السنة، لأن المستهدف سيكون هو الفصائل المسلحة الشيعية، التي ستتقاتل فيما بينها بشكل كبير جداً، ما يؤدي لإضعاف دورها في المرحلة المقبلة".