عن الحوار حول "الأحوال الشخصية" في العراق

4 قراءة دقيقة
عن الحوار حول "الأحوال الشخصية" في العراق

قبل إقرار قانون الأحوال الشخصية في العراق في 1959 كان هناك مشروع قانون مشابه قدّمته حكومة نوري السعيد في العهد الملكي في 1956، بديلاً عن المحاكم الشرعية المنفصلة التي كانت هي المحاكم المختصّة بالأحوال الشخصية في العراق منذ العهد العثماني، وحينما جاءت سلطة الاحتلال البريطاني أقرّتها وأمضت عليها.

 

فكّرت حكومات العهد الملكي منذ 1921 بقانون أحوال شخصية موحّد، ولكن كلّ المحاولات لم تصل إلى نتيجة، حتى وصلنا إلى مشروع قانون 1956 والذي طرح للتصويت في مجلس الأمة (بغرفتيه: مجلس الأعيان، ومجلس البرلمان)، وقوبل بمعارضة شديدة من شخصيات دينية سنيّة وشيعية وأخرى قبلية محافظة، ولكن أبرز المعترضين كانت مؤسسة المرجعية الشيعية في النجف.

 

سحبت حكومة نوري السعيد مشروع القانون، على أمل التفاوض والنقاش حوله، ولكن انقلاب 1958 لم يتح للنظام الملكي ولا لحكوماته الاستمرار بهذا الحوار.

 

جاءت حكومة النظام الانقلابي الجمهوري بمشروع قانون جديد أكثر جرأة وحداثة، وأقرّته في برلمان 1959، بغض النظر عن رأي المعترضين، وعلى رأسهم المؤسسة الدينية الشيعية.

 

ومن يومها تحوّل النظام السياسي ومؤسساته إلى عدو، وصارت الناس المتأثرة برأي المؤسسة الدينية الشيعية تجري عقدين؛ الأول شرعي على يد رجل دين، والثاني رسمي يتم تسجيله في المحاكم المدنية.

 

كانت محاكم الأحوال الشخصية قبل اقرار قانون 1959 منفصلة جزئياً عن النظام القضائي المدني، تقوم المؤسسات الدينية بتزكية القضاة من رجال الدين المشهود لهم بالكفاءة والعلم، غير أن هؤلاء القضاة الشرعيون، من السنّة والشيعة، يقبضون مرتباتهم من وزارة العدل.

 

السبب الذي دفع النظام الملكي ثم الجمهوري الى التفكير بقانون أحوال شخصية موحّد هو الفوضى في الأحكام، ومحاولة لحفظ حقوق المواطنين، ولا سيما النساء والأطفال، وادخال تشريعات حديثة تتماشى مع حقوق الانسان والتطورات القانونية الجارية في العالم.

وبنظرة موضوعية لا شكّ أن قانون الأحوال الشخصية لسنة 1958 هو قانون متقدّم، وأفضل بكثير من قوانين الأحوال الشخصية المستندة الى فتاوى دينية لا تراعى التطوّر والتغيّر في حياة البشر. لكن الطريقة التي أقرّ بها هذا القانون كانت خاطئة، فاستعداء مؤسسة بثقل وتأثير مرجعيات النجف عمل شرخاً نعاني من تبعاته اليوم.

 

كان هناك تفاؤل عند الأحزاب التقدمية العراقية، بأن الزمن ليس في صالح هيمنة المؤسسات الدينية التقليدية على الحياة المدنية، يعزّز ذلك اندفاع الاجيال الجديدة الى فضاءات الدولة الوطنية الحديثة، والتقدّم والتطوّر الثقافي والاقتصادي في كلّ مناحي الحياة. كما أن فكرة (حرق المراحل) والانقلاب على العهد القديم، المستوردة من ثوريات اليسار العالمي، كانت تفكّر بدفع المجتمع بسرعة أكبر من الزمن الاجتماعي السائد، وهذا للأسف لم يتحقّق، فظل الزمن الاجتماعي لزجاً يسير ببطء، يتلقى قرارات السلطة التحديثية من الأعلى ويحاول التكيّف معها (كما في مثال عقدي الزواج عند شيخ وعند المحكمة).

 

بينما كان قرار نوري السعيد بسحب قانون 1956 ذكياً وحكيماً، وهو بالتأكيد لم يكن يفكّر، أو من ينوب عنه من النخبة السياسية في ذلك العهد، في التخلّي عن مشروع القانون، وانما في ايجاد ظروف لمزيد من الحوار مع المعترضين، وعلى رأسهم المؤسسة الدينية الشيعية. وقد يطول هذا الحوار ويكون معقداً ومرهقاً، ولكنه أفضل من إملاء الارادات بالقهر والغصب. وسنجد في النهاية قانوناً يحضى بقبول أوسع، ولن يتحوّل الى لغم يتفجّر في المستقبل.

 

حماسة وتفاؤل وثقة الجمهوريين الانقلابيين نجدها اليوم تتكرّر، مع الاسلاميين الشيعة الذين يريدون أيضاً فرض التعديلات التي تعيدنا الى نظام الأحوال الشخصية في العهد العثماني، في تجاهل لكلّ المتغيّرات على مدى أكثر من مئة سنة.

الغائب في هذا المشهد هو الحوار، والمزيد من الحوار. ليس قانون 1959 مقدّساً ولا يمسّ، ولكن لا يجب فرض التعديلات بالغصب. ولا أن يكون النقاش حولها نوعاً من الحرب وكسر الارادات.

 

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الاثنين 16 سبتمبر 2024 02:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

المزيد من المنشورات

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.