الكهرباء في العراق وجبل الجليد الطافي

9 قراءة دقيقة
الكهرباء في العراق وجبل الجليد الطافي

عندما تسأل الناس في بغداد عن أهم مصادر معاناتهم اليومية، ستكون الإجابة بأن المعاناة آتية من سوء كفاءة المنظومة الكهربائية المحلية والتي تمدهم بالقليل من حاجتهم الفعلية بشكل غير منتظم، وبالتالي تؤثر سلبياً على نشاطاتهم وعلى ميزانيتهم المحدودة، ويعزون سبب تدني إمدادهم بالطاقة الكهربائية بالرغم من مئات المليارات التي صرفتها الحكومة الاتحادية على مثلث الشر الكهربائي "حيتان الفساد المحليين والاقليميين والدوليين"، وهؤلاء ـ بحسب رأيهم ـ هم من يحاولون إيقاف أي تحرك باتجاه تطوير تلك المنظومة.

 

ما وصفه المواطنون من أسباب هو رأس جبل الجليد الطافي لمشكلة الكهرباء في العراق، أما جزأه الغاطس تحت الماء فهو الأكبر والأخطر.. فما هو هذا الجزء الغاطس؟ وما هو أصل ذلك الجزء الطافي من المشكلة؟ وهل كلام المواطنين كان صائباً وواقعياً؟

 

سنتكلم عن الجزئين اليوم (الطافي والغاطس) بشكل مستفيض.. فلنمضي

 

في يوم الثلاثاء 30-4-2019 وقع وزير الكهرباء السابق لؤي الخطيب اتفاقيات تنفيذية مع شركة (SIEMENS) الالمانية بحضور المستشارة الألمانية ورئيس الوزراء العراقي، وبعدها بعدة اشهر وقع مع شركة (GE) الامريكية بدعم حكومي امريكي مميز، لتبدأ من هنا الخطوات العملية لذلك الاكاديمي المتّقد بالحماس والرؤى الحديثة باتجاه الإصلاح التقني والتنظيمي لشبكة العراق الكهربائية المتهالكة وإعادة هيكلة الوزارة المترهلة بالفساد و بالبيروقراطية وبعدد مهول لا حد له من الموظفين الفائضين عن الحاجة، وبالفعل خلال الاشهر التي تلتها زاد كمية الإنتاج بواقع 3 جيجا واط مع زيادة إضافية بواقع 2جيجا واط خلال فترة سنة، لكن بعد 163 يوماً من حفل التوقيع هذا في برلين أقيلَت هذه الحكومة وانتهت بكامل خططها واستراتيجياتها الى (الارشيف).

 

ملخص قصة الكهرباء حتى سنة 2024: يمتلك العراق 75 محطة لتوليد الكهرباء تحوي 680 توربيناً منها 20% عاطلة، بينما المتبقي منها ينتج حوالي 15.2 جيجا واط سنوياً وهناك 3% إضافية من استيراد الكهرباء من كوردستان ودول الجوار لتصل 40% من الكميات (المنتجة والمستوردة) الى محطات التوزيع. هذا يعني أن خسائر التوليد والنقل والتحويل والسرقة تصل الى 60%، اي ان 42 مليون مواطن عراقي يحصلون فقط على 6.5 جيجا واط صافي حقيقي وهذا الرقم الفقير هو الذي يجعل انقطاع التيار الكهربائي حتمي لأكثر من 12 ساعة يومياً خصوصاً في أوقات الذروة.

 

تعاني منظومة الكهرباء العراقية من مشاكل مزمنة ومركبة، جعلت تجهيز الطاقة في هذا البلد النفطي غير مستقر ومكلفاً أُثقِل بها كاهل (المواطن والدولة على حدٍ سواء) بخسائر تشغيلية وصلت سنة 2023 الى حوالي7 مليارات دولار (بدلاً من واردات قد تصل الى 13مليار دولار)، لتسبب خسائر للاقتصاد المحلي تعادل 50 مليار دولار سنوياً لتصبح هذه المنظومة الكهربائية من أسوأ 3 منظومات كهربائية تعمل على وجه الأرض. لدرجة ان خطة التطوير الكهربائية المقررة منذ أكثر من 5سنوات مع شركتي (GE وSIEMENS) المذكورة آنفاً لم تُنفَذ لأسباب من أهمها عدم توفير الوقود اللازم (الغاز) لتشغيل المحطات والتوربينات المزمع تجهيزها ضمن تلك الخطة، بجانب عدم حصول المشروع على أي تمويل طويل الأمد لا من المستثمرين المحليين ولا من مؤسسات الإقراض الدولية مع صعوبة التمويل الحكومي.

 

يحتاج العراق سنوياً الى حوالي 24 مليار م3 من الغاز الجاف (لتوليد الكهرباء) حيث ان 40% من الغاز الجاف يتم استيراده من إيران بواسطة الانابيب، لكن المشكلة هنا هي في ان ما يصل اليوم من الغاز الجاف للمحطات لغرض انتاج الطاقة الكهربائية لا يمثل سوى 83% من حاجتها الفعلية الحالية بتكلفة سنوية تصل الى 6.5 مليارات دولار (بين غاز محلي ومستورد) بالإضافة لكون العراق لا يملك خزين غازي استراتيجي (جوفي وسطحي) يمكنه من سد فجوة التذبذب الموسمي الحاصل في امداده بالغاز من الخارج.

 

بينما محطات الطاقة الكهربائية العراقية تعاني التقادم وسوء التشغيل والصيانة مع استخدام وقود غير مناسب في معظمها مما جعل نسبة التوليد فيها لا تتعدي 30ِِ%-50% من السعة التصميمية لها، لتصل كلفة التوليد للوحدة الواحدة في بعض المحطات (مع إضافة عناصر الفساد والبيروقراطية والترهل الوظيفي) الى حوالي (1دولار /كيلو واط ساعة) وهو رقم لا يمكن قبوله بأية حال كذلك الضائعات في قطاعات الشبكة تصل الى ارقام مرعبة. ففي مدينة الصدر ببغداد مثلاً وصلت الى 70% من الطاقة المتولدة، وهذا مجموعه جعل الشبكة العراقية الكهربائية قاصرة في تلبية الطلب المحلي المتزايد.

 

جزء من جبل الجليد الغاطس لمشاكل الكهرباء العراقية، هي في محطات التحويل وفي خطوط النقل التي تعاني من نقص في اعدادها يصل الى 100%(وخصوصاً في محطات 132و400كيلو فولت) بحيث تحتاج الشبكة الى بناء 400 محطة تحويلية مختلفة حتى عام 2024 لتقليل الضائعات  وبنفس النسب يمكن التكلم عن خطوط النقل إذ ان النقص في بناء المحطات ومد الخطوط يؤثر على نقل الطاقة الكهربائية بشكل مرن وانسياب،ي مما يؤدي الى تكرار انقطاع التيار الكهربائي كما يؤثر في زيادة الخسائر والضائعات في الطاقة (تصل الى 65% من الخسائر الكلية للشبكة) ناهيك عن الصعوبات في ربط المنظومة العراقية مع منظومات للدول المجاورة لنفس السببين اعلاه.

 

والجزء الآخر من جبل الجليد هو أن العراق في سنوات (1980-1989) استثمر حوالي 55 مليار دولار لتطوير شبكته الكهربائية (بسعر اليوم 178مليار دولار) لتصل قدرة التوليد التصميمية في محطاته الى 9.3 جيجا واط عام 1990 بينما وصل مقدار ما تم صرفه خلال 20سنة ما بين السنوات 2003 الى 2022 الى 134مليار دولار لا أكثر (تشغيلية واستثمارية)، وتعادل فقط 30% مما تم استثماره في الشبكة الكهربائية السعودية خلال نفس الفترة.

 

اما الجزء الثالث للجبل فياتي من أن 67% من العراقيين لا يدفعون ثمن ما يستهلكوه من الكهرباء الوطنية، ومن اكثر من 6ملايين وحدة سكنية هناك فقط 4.3 ملايين وحدة تملك عدادات (جزء كبير منها لا يعمل) او ان أصحابها يربطون وحداتهم بشكل مباشر بالشبكة بدون المرور بالعدادات وهذا يمثل 35% من الضائعات، مع ان سعر تعرفة الكهرباء للصنف المنزلي في العراق تبدأ من 10 دنانير (0.0065 دولار) حتى 120 ديناراً (0.078 دولار) وهي لا تصل حتى الى معدل تكلفة الإنتاج المحلي (0.13دولار) لهذا فواردات الكهرباء العراقية في سنة 2023 (من كل مستخدميها) وصلت الى 1.75 مليار دولار مقارنة بـ19,54 مليار دولار هي واردات السعودية من منظومتها الكهربائية لنفس الفترة.

 

يحتاج العراق سنوياً الى معدل انتاج فعلي واصل للمستهلك بحوالي 30 جيجا وات من الكهرباء بحلول عام 2030 لسد حاجته الحالية منه ولتلبية متطلبات تنمية اقتصاده باستثمارات لا تقل عن 50 مليار دولار في القطاعات الخمس (الإنتاج، لنقل، لتحويل،التوزيع، لجباية) وهو الرقم الذي قد تعجز السلطات الحكومية عن جمعه خلال الست سنوات المقبلة كون إدارة ملف الكهرباء لحالي وتجهيزه بالطاقة والاستثمارات اللازمين لاستمراره هو بالأساس معضلة لها.

 

واخيراً، يحتاج العراق الى جلب استثمارات (خارجية ومحلية) لتطوير منظومة الكهرباء ومنح القطاع الخاص دوراً اكبر في تشغيلها مع ترشيق وزارة الكهرباء أو دمجها مع وزارة النفط (كوزارة للطاقة) إن أمكن مع السعي للحصول على تخصيصات مهمة لتوفير بنى تحتية في مجال الغاز وخلق استثمارات حقيقية لتطوير الحقول الحالية لإنتاج اعلى كميات من الغاز لسد حاجته المحلية (ومنها بناء الخزين الجوفي الاستراتيجي مع خزانات سطحية بسعات كلية تصل الى7مليار م3)، كذلك تطوير آليات الإنتاج المحلية للغاز الجاف كون الاتفاقية الاخيرة للمقايضة مع تركمانستان هي الخطة (B) لتفادي مشكلة العقوبات الامريكية وهي اصلاً ليست لحل ازمة استيراد وتجهيز الغاز وبالتالي لم تكن حلاً لمشكلة الكهرباء العراقية والتي تعاني بالأساس من مشاكل (كالعجز والفساد وسوء التخطيط) والتي أدت الى تحول هذا القطاع الفعّال الى قطاع خاسر وعامل مبطئ رئيسي لعملية تطوير اقتصاد البلد، وإحباط لخطط توسيع نسب مشاركة القطاع الخاص فيه، بالإضافة الى تحويل العدادات في الوحدات (المنزلية ،الحكومية ،الصناعية ،التجارية) الى الكترونية ذكية (مسبقة الدفع) وتجهيز كل المحافظات بها لضمان الاستهلاك العادل و تقليل التجاوزات والسرقات من الشبكة الى حدها الأدنى، وحماية حقوق الشعب بقوانين صارمة تحفظ له واردات تلك الثروة مع مراجعة شاملة وحقيقية لتعرفة الكهرباء المباعة (خصوصاً المنزلية والحكومية منها اللذان يشكلان 75% من الاستهلاك الكلي) وايصالها لسعر التكلفة على اقل تقدير.

 

إن الاعتماد على التصريحات الصحفية وعرض ارقام مستقبلية غير واقعية او متفائلة بشكل كبير سوف لن تحل شيئاً بل ستعقد الوضع المعقد اصلاً وتصل بالحكومات المتعاقبة الى اعتماد سياسة معينة لتغطية تساؤلات الراي العام حول حقيقة تلك الأرقام وصحتها على ارض الواقع وهدف الحكومات المتعاقبة من عرض معلومات وخطط قد لا تكون منطقية بالمرة.

د. دريد عبدالله باحث وخبير في القضايا المتعلقة بالطاقة

نُشرت في الاثنين 8 يوليو 2024 10:23 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.