وزارة الحقيقة.. عن "التريند" والجيوش الإلكترونية في العراق

5 قراءة دقيقة
وزارة الحقيقة.. عن "التريند" والجيوش الإلكترونية في العراق (تعبيرية)

في روايته الشهيرة 1984 يقدم الكاتب البريطاني جورج أورويل بطله "ونستن سميث" موظفاً في وزارة تدعى "وزارة الحقيقة" في نظام دولة "أوشانيا" الخيالية التي تجري فيها أحداث الرواية. سميث يعرف جيداً أن الوزارة التي يعمل فيها ليس لها علاقة بالحقيقة، وانما بضدّها، حيث يعمد هو وزملاؤه إلى تزييف الحقائق واختلاق الأكاذيب من أجل الهاء المجتمع. كما أنهم يراقبون من يطلق آراءً مغايرة لتوجّهات النظام الحاكم، ويحاسبونه. إن عمل هذه الوزارة هو أن تقدّم للناس "ما تريد أن يكون هو الحقيقة"، لا الحقيقة المجرّدة ذاتها.

 

تحضر هذه الاستعارة الساخرة التي أنتجها جورج أورويل دائماً في ذهني كلما شاهدت حملة منظمة على مواقع التواصل الاجتماعي لدفع قضية ما كي تكون "تريند" عند جمهور المتابعين، وهي مرحلة متقدّمة من عمل "الجيوش الالكترونية" في العراق، التي تموّلها أحزاب وجهات حكومية، لدعم "ما تريد أن يكون هو الحقيقة"، وكان هذا العمل الذي يشبه أعمال "وزارة الحقيقة" في مراحل بدائية، تطوّرت قليلاً خلال خلال الحرب مع داعش وما تلاها من سنوات، حيث اشترك الكثيرون بحسن نيّة في الدفاع عن النظام تجاه كلّ من ينتقده، بهدف إضعافه وهو في حالة حرب، ثم تطوّر الأمر إلى مهاجمة من ينتقد الأحزاب ذاتها، من خلال تغريدات مشتركة أو شتائم داخل منشورات الناقدين للنظام وأحزابه.

 

وكان يمكن وقتها التخفيف من تأثير هذه الهجمات المنظّمة من خلال حظر الحسابات المسيئة، غير أننا دخلنا في مرحلة متقدّمة، حيث يتم استثمار الجيوش الالكترونية لتحديد التريند الجديد، ويضطّر الجميع فيما بعد للتفاعل مع التريند الجديد، ليستنزف طاقة الاهتمام بالشأن العام في قضايا يحدّدها أصحاب الجيوش الالكترونية، لا النخبة المثقفة من إعلاميين ومدونين وناشطين مدنيين.

 

المرحلة الأحدث من أعمال "وزارة الحقيقة" في العراق، هي صناعة الحدث الملهي، كما في قصّة المحتوى الهابط، أو اعتقال فاشينستات، أو إثارة قضايا طائفية، قد لا تؤدي إلى تأجيج صفحة جديدة من الصراع الطائفي، ولكنها تلهي المجتمع وتدخله في حالة توتّر وقلق لعدّة أيام أو لعدّة أسابيع أحياناً.

 

لقد أخذت قصة "عيد الغدير" عدّة أسابيع من التغطيات الإعلامية وتعليقات مدونين على وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل الجمهور العام المستقطب ما بين مؤيد ورافض، على الرغم من أن إقرار العيد أو عدم إقراره لن يؤثر على واقع العراقيين شيئاً، وكان المتحمسون لعيد الغدير يحتفلون بهذه المناسبة منذ 2003 من دون الحاجة إلى قانون، وها نحن ندخل في نفق مشروع التعديلات على قانون الأحوال الشخصية، وما زالت القضية تتفاعل في المجال العام، وهي قضية أرى بأن من أثارها هو رابح فيها بكلّ الأحوال، والمجتمع الذي يتفاعل معها ويتصارع ويتبادل الشتائم على مواقع التواصل هو الخاسر.

 

فإن تم إقرار القانون ستربح الأحزاب الاسلامية الشيعية الأصولية نقطة في طريق تقويض الدولة المدنية ووضع لبنة في جدار الدولة الدينية الأصولية، وإن تأجل إقرار القانون أو ألغي المشروع من أصله، بسبب الضغط المجتمعي وضغط المنظمات الدولية، فقد كسبت هذه الأحزاب الأصولية جولة من الدعاية الانتخابية والتحشيد في صفوف ناخبيها. لا توجد قضية من قضايا التريند التي "يصنعها" الطرف الحكومي والحزبي المتنفّذ من غير مردود أو فائدة.

 

نفتح هواتفنا كلّ يوم على مواقع التواصل أو نراقب القنوات الفضائية العراقية، ونرى أن أعمال وزارة الحقيقة تمضي بنجاح، والجمهور العام في دوار من تلاحق التريندات المزيّفة، التي تخلق واقعاً من الاهتمامات المزيّفة، ولم تعد الصحافة المهنية والاحترافية تملك زمام الأمور، وهي التي كانت قبلها صانعة الخبر الصحفي وبالتالي صانعة الحدث الاعلامي الذي يوجّه الجمهور العام باتجاه قضايا لها الأولوية ولها وزنها وثقلها الحقيقي.

 

كما أن تلاحق القضايا التافهة، يسخّف في النهاية قوّة مجال التواصل العام، وتعيد ترويض المجتمع ليجعل اهتمامه وتفاعله، حتى ولو بالسخرية، مع هذه القضايا أشبه بالنشاط اليومي المعتاد والطبيعي. وتمرّر من تحته وخلف الكواليس القضايا الأكثر أهمية مثل السرقات المليارية والصفقات وتخادم السلطات الثلاث مع الفاسدين والطمطمة المتبادلة وغيرها من تجاوزات تنخر في أسس النظام السياسي ومؤسسات الدولة الحاكمة.

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الأحد 8 سبتمبر 2024 04:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.