بعد انتهاء الموجة الأولى من تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، شاهدتُ بعيني انفعال رجلٍ عجوز يدير محلًّا صغيراً للتسوّق، كنت أشتري منه الجبن والبيض لسنوات في منطقتي السكنية داخل بغداد. كان الرجل، في المعتاد، صموتاً، يجلس بمسبحته وسط المحلّ، ويتابع على شاشة تلفزيون معلّقة على الحائط تراتيل القرآن أو بثّ قنوات الطقوس الشيعية و"القرايات" الحسينية المعروفة. فما الذي تبدّل حتى يغدو منفعلاً غاضباً يشتم الأحزاب الحاكمة والميليشيات وما تفعله؟! إنه الدم والجريمة المرتكبة بحق الأبرياء والعزّل من المدنيين، والتي لا يمكن تبريرها بأي شيء.
أمثال هذا الرجل، الذي فاجأني بانفعالاته الصادقة، وكنتُ أظنه سابقاً مؤيداً للأحزاب الإسلامية، سنجدهم، في تلك الأوقات، بالموقف والمزاج نفسيهما في عموم الدائرة الاجتماعية الشيعية في العراق، وقد قرروا حينها الانضمام إلى انتفاضة تشرين ودعمها بكل الوسائل والسُبل.
هذه الشريحة من الناس يمكن القول إنها تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"التيار المحافظ" في العراق؛ تيارٌ يتبع التعاليم الدينية ويبدو متوجساً من دعوات التحرر والنقد العلني للدين، لكنه لا يؤمن بمتبنيات الأحزاب الإسلامية. ويكاد هذا التيار المحافظ أن يكون الجسم الاجتماعي الأكبر في العراق، في مختلف الطوائف والعرقيات.
حركة هذا التيار ومزاجه شكّلا المسار الأبرز في الحراك الاجتماعي والسياسي على مدى العقدين الماضيين؛ فهؤلاء، في غالبيتهم، هم من اتبعوا رأي مرجعية النجف في الذهاب إلى الانتخابات ثلاث مرات عام 2005 تحت تهديد المفخخات والانتحاريين، وهم من منحوا أصواتهم لائتلاف أحزاب الإسلام الشيعي، ليس إيماناً منهم، أفراداً ومجموعات، بأيديولوجيا الإسلام السياسي، بل لأنه كان رأي المرجعية.
في انتفاضة تشرين، حصل التقاء مهم بين هذا التيار المحافظ والنفس الثوري الليبرالي واليساري للشباب المحتجّين، لأن مرجعية النجف كانت في حوار دائم مع مجتمعها الخاص، وقد استقبلت الغضب الشعبي وتفاعلت معه، ومنحت مباركتها لحضورهم في الساحات، ودعمت المتظاهرين بكل وسائل المساندة. وظهرت أحزاب الإسلام السياسي، لأول مرة بهذا الوضوح، عارية من أي دعم شعبي حقيقي.
كان التفاعل بين شريحتي الشباب الثوري والمجتمع المحافظ فاعلاً في عزل الإسلام السياسي، فالشباب خرجوا من صلب هذا المجتمع، ولم يهبطوا من الفضاء، والحوار بين الشريحتين قائم أساساً داخل البيوت والمقاهي والأزقة وأماكن الاختلاط الاجتماعي. ولهذا ركزت دعايات الإسلاميين على شيطنة الشباب وإظهارهم كمنحلّين ومرتكبين للموبقات، في محاولة لتسقيطهم أمام الوعي المحافظ.
في واقع الحال، ان هذا التيار المحافظ هو الفئة المستهدفة من الدعايات والخطابات التي تطلقها مختلف جماعات الإسلام السياسي، سواء المتطرفة أو التي تصف نفسها بالمعتدلة، حتى تلك التي لا تقيم وزناً لمرجعية النجف وتتبع مرجعيات خارجية. وتسعى هذه القوى لاستمالته إلى صفها بشتى الوسائل، لكن العامل الحاسم في توجهات الجزء الأكبر من هذا التيار يظلّ هو موقف مرجعية النجف، لا الضخ الإعلامي المهول الذي تمارسه هذه الأحزاب ليلاً ونهاراً.
قدّمت مرجعية النجف موقفها التفاعلي مع الشارع في أكثر من مناسبة، ورفعت يدها عن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بشكل واضح منذ عام 2010، وطالبت الناس بالبحث عن بدائل لهذه الأحزاب. وللمفارقة، فإن بداية انخفاض نسب التصويت ومشاركة الناخبين سارت بالتوازي مع انسحاب المرجعية من دعم تلك الأحزاب. حتى البيان الصادر عنها في 29 أيلول/ سبتمبر 2021، الذي حاول بوضوح إلقاء مسؤولية اختيار المرشحين على الناخبين، فُهم على نطاق واسع كبيان غير متحمّس للانتخابات، حيث أكدت المرجعية أن الانتخابات، في حد ذاتها، لا تكفي لحل مشاكل العراق. وتركت مسألة المشاركة أو المقاطعة للناخبين، في ظل انقسام حادّ داخل الشارع، حتى في أوساط الجمهور المحافظ، وقد عكس بيان المرجعية هذا الانقسام وعبّر عن موقف وسطي.
ويتكرر المشهد ذاته اليوم قبيل انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر المقبلة؛ فالجمهور المحافظ، بشكل عام، يائس من الانتخابات، ورافض لأحزاب الإسلام السياسي، ليس لأنه جمهور "علماني"، بل لأن موقفه يستند إلى أداء هذه الأحزاب، والفساد المستشري، وتردّي الخدمات، وارتفاع البطالة، وغيرها من الملفات الحيوية. ولا يزال هذا الجمهور يرى في انسحاب المرجعية من التعليق السياسي العلني نوعاً من غسل اليد من العملية السياسية برمتها.