ما زالت مجالس المحافظات حبيسة الخلافات والأزمات منذ عودتها في 2023 لغاية الآن، لا إنجازات فعلية تُذكر، وأبرز ما نجحت فيه هو إقالة المحافظين تارة، وتحوّل جلساتها إلى حلبة للملاكمة تارة أخرى مثلما حدث مؤخراً في ديالى، فقد باتت هذه المجالس نقمة على العملية السياسية لا منفذاً لحلّ أزماتها المعقدة، بحسب وصف محللين ومهتمين بالشأن السياسي العراقي.
صلاحيات المجالس
تُعد مجالس المحافظات في العراق وفقاً للدستور، بمثابة السلطة التشريعية والرقابية في كل محافظة، حيث لهذه المجالس المنتخبة الحق في إصدار التشريعات المحلية، بما يمكنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، من دون أن يتعارض ذلك مع الدستور والقوانين التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية.
تمتد الدورة الانتخابية لمجالس المحافظات العراقية أربع سنوات. تبدأ مع أول جلسة لها، وفقاً لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الصادر عام 2008، وتتمتع تلك المجالس بالاستقلال المالي، ويمثلها رئيسها أو من يخوله، وتخضع لرقابة مجلس النواب بشكل مباشر، كما لها موازنات ممنوحة من قبل الحكومة الاتحادية.
أيضا يمكن لمجالس المحافظات تحصيل إيرادات مالية جراء الخدمات التي تقدمها والمشاريع الاستثمارية الخاصة بكل محافظة، علاوة على الإيرادات المتحصلة من الرسوم والغرامات المحلية، والمفروضة وفقاً للدستور والقوانين الاتحادية النافذة.
وبحسب المادة 122 من الدستور، تتكون المحافظات من عدد من الأقضية والنواحي والقرى، ويُعد المحافظ الذي ينتخبه مجلس المحافظة، الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من قبل المجلس، ولا يخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أي وزارة أو أي جهة غير مرتبطة بوزارة، وله مالية مستقلة.
كما تفيد المادة 123 من الدستور بأنه يجوز تفويض سلطات الحكومة الاتحادية للمحافظات أو بالعكس، بموافقة الطرفين على أن ينظَّم ذلك بقانون.
الحلّ والعودة
تم حلّ مجالس المحافظات عام 2019 خلال تظاهرات تشرين، فبعد أن خفَّفت الأخيرة مطالبها من إسقاط النظام السياسي بأكمله إلى إجراء إصلاحات شاملة، لم يكن أمام مجلس النواب خيار آخر سوى التضحية بمجالس المحافظات، فدور وكيل الأحزاب الذي لعبته تلك المجالس بمواجهة الجماهير في المحافظات هو مَن أطاح بها.
وفي 28 تشرين الأول من عام 2019، صوّت مجلس النواب على حلّ مجالس المحافظات والأقضية والنواحي من حيث المبدأ، لحين إجراء انتخابات في العام الذي يليه، لكن لم يحدث ذلك إلا بعد أربع سنوات.
وبعد تصويته على حلّ مجالس المحافظات، منح مجلس النواب تخويلاً للمحافظين بإدارة الأمور المالية والإدارية في كل محافظة، على أن تتولى السلطة التشريعية الاتحادية الإشراف والمراقبة على المحافظين لحين إجراء الانتخابات، كما صوّت على أن يقدم المحافظون موازناتهم المالية إلى اللجنة المالية النيابية.
وبعد ذلك بشهر واحد، أقرّ المجلس مقترح قانون التعديل الثاني لقانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لعام 2018، والذي نصَّ تعديله على "إنهاء عمل مجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم ومجالس الأقضية والنواحي الحالية التابعة لها".
وبموجب التعديل، "يقوم أعضاء مجلس النواب كلاً قدر تعلق الأمر بالمحافظة التي يمثلها، بممارسة الإشراف والرقابة على أعمال المحافظ ونائبيه في كل محافظة، وتقديم التوصيات اللازمة بشأنها لمجلس النواب، كذلك عدم إجراء انتخابات مجالس جديدة، بل سيقتصر الأمر على انتخاب الحكومات المحلية المتمثلة بالمحافظين ونوابهم.
أما فكرة إحياء تلك المجالس، فقد بدأت بعد تراجع زخم الاحتجاجات في شباط 2020، من بوابة "مظلومية الأعضاء" الذين لم يحصلوا على رواتب، وعدم شرعية إلغاء المجالس.
كان رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت محمد الحلبوسي، الذي أكّد في 28 تشرين الأول 2019، أن قرار حلّ مجالس المحافظات قانوني ودستوري، لكن الانقلاب حصل لاحقاً حين صدر قرار عن المحكمة الاتحادية نسف كل ما فعله مجلس النواب خلال احتجاجات تشرين.
صدر قرار المحكمة الاتحادية في حزيران 2021، ناصّاً على أن قرار بقاء مجالس المحافظات غير قانوني بسبب انتهاء الولاية، لكنه شدد على أن "إلغاء المجالس غير دستوري".
وعقب قرار المحكمة الاتحادية الأخير، جاءت الخطوة الثانية بتعديل قانون الانتخابات المحلية، ليمهد لعودة مريحة إلى المجالس.
لم يهتم أغلب العراقيين بعودة المجالس المحلية، فقد قاطع انتخابات مجالس المحافظات أكثر من 18 مليون عراقي (كان حينها العدد الكلي للعراقيين الذين يحق لهم التصويت أكثر من 25 مليوناً، وعدد المصوتين أقل من 7 ملايين بحسب بيانات مفوضية الانتخابات).
إخفاق بعد العودة
أُقيمت انتخابات مجالس المحافظات غير المرتبطة بإقليم في العراق في يوم 18 كانون الأول 2023 لانتخاب أعضاء مجالس محافظات العراق غير المرتبطة بإقليم. كان من المفترض أن تُقام الانتخابات في عام 2018 ولكن بسبب التظاهرات والاحتجاجات تأجلت أكثر من مرة.
وفي آذار 2023 قرّر مجلس النواب إقامة الانتخابات في كانون الأول 2023، وتبدأ الحملات الانتخابية في 1 تشرين الثاني 2023. وشارك 5.898 مرشحاً في الانتخابات، وتنافسوا على 285 مقعداً في 15 محافظة.
يعني ذلك، أن الانتخابات المحلية مضى عليها نحو سنة ونصف، ولغاية لآن، لم يظهر أي عمل واضح وملموس للمجالس باستثناء الخلافات والأزمات في مختلف المحافظات.
وتأكيداً على ذلك، وصف سياسيون، مجالس المحافظات، بأنها "دكاكين تعمل لصالح الأحزاب التقليدية، والدليل لم تقدم إنجازاً منذ انتخابها لغاية اليوم".
وللحديث عن خلافات المجالس الجديدة، اتهم رئيس مجلس محافظة واسط أحد نواب الإطار التنسيقي بتهديده بالقتل بواسطة طائرة مسيرة.
وبحسب وثيقة الدعوى التي تقدّم بها علي سليمون رئيس المجلس، إلى الادعاء العام ضد النائب يوسف الكلابي في وقت سابق، قام الكلابي بتهديد وترغيب عدد من أعضاء مجلس محافظة واسط وخاصة عن كتلة "واسط أجمل" التي يرأسها المحافظ محمد المياحي، بهدف استمالتهم تحت التهديد المباشر من أجل دعمه ليكون محافظاً لواسط، وفق سليمون.
أما في نينوى، فقد انشغل مجلس المحافظة بعد حسم المناصب الرئيسية عقب الانتخابات، بأزمة اللجان وتغيير رؤساء الوحدات الإدارية.
لاحقاً، انفجر الوضع في جنوب العراق، حيث تعرض الاتفاق الذي أبرمه الإطار التنسيقي لإدارة الحكومات المحلية بعد الانتخابات، إلى تصدعات، كما جرى في إقالة عبد الباقي العمري رئيس مجلس محافظة ذي قار المنتمي إلى كتلة أحمد الأسدي وزير العمل.
والمشهد في ذي قار قد يتكرر في محافظة ثانية في الوسط والجنوب على وجه الخصوص، وفق ما يرجح مراقبون، بسبب محاولة إعادة توزيع قوى الإطار التنسيقي بين الحكومات المحلية عقب فشل بنود عدة في اتفاقاته الداخلية، وهو ما تكرر فعلاً.
لم تنتهِ أزمات مجالس المحافظات بذلك فقط، بل هي مستمرة حتى اللحظة، فمحافظة ديالى مشتعلة إلى الآن حتى إن رئيس مجلسها عمر الكروي أعلن رسمياً دعمه لقرار حلّ المجلس.
وقال الكروي في حديث له، إن "إعلاني دعم قرار حلّ مجلس محافظة ديالى ليس مناورة سياسية، بل هو إيمان صادق بضرورة وضع حدّ للأزمات المتكرّرة، والتي تفاقمت نتيجة تجاهل تنفيذ قرارات القضاء العراقي، رغم أن محكمة القضاء الإداري أكدت قانونية موقفي، وإنني لا أزال رئيساً للمجلس من الناحية القانونية".
يُذكر أن مجلس محافظة ديالى يشهد منذ الانتخابات المحلية أزمات متكرّرة، لاسيّما بعد إقالة رئيسه أكثر من مرة، قبل أن يعود بقرارات قضائية من محكمة القضاء الإداري، إلا أن أغلب الأعضاء قرروا التريث في تنفيذ تلك القرارات.
وبالعودة إلى ذي قار، فلم تكتفِ أزمتها برؤساء مجلسها، بل كانت خلافات المحافظين قائمة أيضا، فتمت الإطاحة بمرتضى الإبراهيمي مطلع العام الحالي، وما زالت الخلافات مستمرة.
تقريبا، كل محافظة لا تزال غير مستقرة سياسياً بسبب مجالس المحافظات، الأمر ينطبق على بغداد مثلا وصراع محافظها ورئيس المجلس، وصلاح الدين، بل حتى كركوك باتت على صفيح ساخن وتستعد الآن 3 كتل نيابية للإطاحة برئيس مجلسها محمد إبراهيم.
توقع الفشل
في الثالث والعشرين من حزيران 2023 ـ أي قبل 6 أشهر من انتخابات مجالس المحافظات حينها ـ شخَّص القيادي في تحالف الفتح عدي عبد الهادي، 4 سلبيات في عودة مجالس المحافظات، فيما توقع عودة الأزمات مع عودة عمل تلك المجالس.
وقال عبد الهادي حينها، إن "الرأي الشعبي العام لا يميل بنسبة كبيرة لعودة مجالس المحافظات مرة أخرى رغم أنها دستورية، بسبب تراكمات الدورات المتعاقبة وإخفاقها في تصويب مسارات الإعمار وحل المشاكل، بل كانت بوابة للكثير من الأزمات بسبب التقاطعات السياسية ومحاولة البعض العمل وفق مصالح شخصية بعيداً عن المصالح العامة".
وأضاف، إن "عودة مجالس المحافظات تعني عودة الأزمات الى المشهد مرة أخرى، وهذا ما يخشاه الكثيرين سواء في ديالى او بقية المحافظات"، لافتاً إلى أن "بعض المجالس مارست أجندة ضغط على المحافظ او الدوائر لتمرير رؤى بعيدة عن السياقات الصحيحة وخلقت إشكاليات كبيرة".
من جانبه، رأى القيادي في تحالف النصر، أحمد الوندي، أن "سبب هذا التدهور في أداء بعض المجالس يعود إلى جملة أسباب، أبرزها آلية اختيار المرشحين من قبل بعض الأحزاب، وضعف وعي الناخبين حيال المرشحين".
وقال الوندي، إن "غياب البرامج الحقيقية لأغلب الأعضاء، سبب لهذا الصراع السياسي، فأغلبهم مثلاً يتطلعون للترشح إلى مجلس النواب"، مشددًا على "أهمية ابتعاد هذه المجالس عن الخلافات السياسية، وأن تعكس رؤية المواطن وتطلعاته".
حاولت "الجبال" أخذ رأي أعضاء المجالس في مختلف المحافظات لكن جميعهم اعتذروا عن الحديث بهذا الجانب، نظراً لأن مجالس محافظاتهم لا ترتقي لمستوى الطموح وهي تواجه معوقات كثيرة ولذلك فهم "محرجون" وفق وصفهم لنا عن الحديث.
بدورها، رأت الباحثة في الشأن الاجتماعي، منى العامري، أن "مجالس المحافظات وُجدت لتسهيل إدارة الدولة، لكنها ومنذ نشأتها تحولت إلى بؤرة للصراعات السياسية وتصفية الحسابات"، مشيرة إلى أن "ممارساتها انعكست على الواقع الخدمي للمدن".
وأشارت العامري إلى أن "وجود المجالس حلقة زائدة، ولم تحقق شيئًا للشعب، لكنها تأتي في سياق توزيع النفوذ والهيمنة بين الأحزاب السياسية الحاكمة للبلد".
من جهته، أكد الأكاديمي والباحث في الشأن السياسي غالب الدعمي، أن "عمل مجالس المحافظات مشوش كونها لم تلتزم بالضوابط أو حدودهم القانونية التي وجدت في القانون".
وقال الدعمي لـ"الجبال": إن "مجالس المحافظات تمددت على السلطة التنفيذية بشكل كبير وتدخلوا في عملها، وكذلك تدخلوا في مجال الفساد والمنافع وكان ذلك جانبا مهما وباب من أبواب استنزاف العملة العراقية لمصاريف يجب ان لا تكون، حيث أن هناك مصاريف تصرف على العضو غير راتبه وهناك بنايات وايجار وكهرباء وغيرها".
وأضاف، "برأيي لو كانت هذه التجربة منتشرة عالمياً فيجب أن تقنن وتحدث وفق معاير ويكون واجبها فقط في الرقابة على المشاريع ولا تتجاوز ذلك حتى لا تتدخل في عمل الحكومة التنفيذية".