شكسبير كان صحافياً

8 قراءة دقيقة
شكسبير كان صحافياً تعبيرية

الدكتور هيثم الزبيدي غادرنا باكراً، وأجد دينًا عليّ أن أكتب مقالًا، هو في الحقيقة مقالٌ مشتركٌ معه، يعتمد على مراسلات عبر البريد الإلكتروني، احتوت على نصائح تفضل بها فيما يخص الكتابة؛ من التشبيهات، إلى كيفية استخدام الفواصل وعلامات التنقيط، وما سيحدث لقيمة النص المنتشي باستخدامها.

 

"الناس في التاريخ إمَّا طائرُ عصورٍ مجهولة وإمَّا نافِذة تُزقزِقُ حكاياتٍ و هي صامتة".

 

تندلع الحرائق في غُرف التحرير الصحافية. هي لا تُشغِّلُ مرشات الماء في أبنية القرن الواحد والعشرين لكنها تُسبِّبُ عبوساً وأخاديد على جبهة المُحرِّر. هذه الحرائق التي ينجو منها البناء على حساب وجه المُحرِّر يكون سببُها في أغلب الأحيان اتصالٌ هاتفي يشبهُ عود كبريت من كاتبٍ حانق.

 

المُحرِّر يصبح في تلك اللحظة خرطوم إطفاء لحريق قلب الكاتب. مُعظم الكُتَّاب ناريون وقد لا يُفلح خرطوم الإطفاء بإخماد نارِهم ولو بمحيطات العالم. المحرر الذي يُصاب بعدوى النيران يُطفئ زملائه ناره بالابتعاد عنه. بعد أن تبدأ الأحداث والأخبار بالانهمار عليهم في مطبخ التحرير، يبدأ الزملاء بتوجيه الأسئلة برشاقة لا تسمح بأي حرائقٍ جانبية. يسألوه عن تركيبة عود الكبريت التي دفعت زميلهم لارتداء بدلة إطفائي. الجواب كما خبروه دائماً ينتمي إلى عُلبة كبريت عمومية اجترحوا أن يجمعوا فيها الأنواع المختلفة من تلك العيدان "غيَّرتُ حرف جرٍ فاتهمني بالاعتداء عليه وقتلِ نصِّه". يضحك الجميع بالقول: "الحمد لله ليست كلمة أو عِبارة". لكي يضمنوا نزع بدلة الإطفائي عن مزاج زميلِهم ولكي يصبح الآن كُلُّه قلماً يغنون معاً هذا المقطع الكلاسيكي "أنها ضريبةُ المهنة"، و التي يحلو لزميلنا الكبير التربيت عليها بدفء "ربك يعين".

 

الحرائِق التحريرية هذه تُخفي نظيراتِها الأكبر التي تندلعُ  مثلاً أمام المُحرِّر المسؤول عن صفحة الرأي. هو إن نجى من جهد التصحيح لتخفيف بعض العبء عن الفريق المختص بذلك فهو لن ينجو من علامات التنقيط، تبذير الكاتب باستخدام علامات الاستفهام، التعجب، والفواصل. مصيرهُ غالباً الغرق في بِحار التنقيط ومحيطات الفواصل. يتمنى من الله أن يُرسِل ناراً وحبلاً يُساعِدانه في تنشيف النص. لكن زمن المُعجِزات دائماً ما يطير هارباً من نوافذ التحرير.

 

علامات التنقيط أيها السادة الكُتَّاب لا تتكرر. بشرحٍ مبسط، كل واحدةٍ منها هي نقطة نهاية سطر بشكلٍ أو آخر، مُخفَّفة أو مُحرَّكة مثلما نُحرِّك الحروف. مثلاً علامة الاستفهام، هي نقطة بعصا ملتوية للدلالة بغاية السؤال. علامة التعجب نقطة بعصا تفيد النداء أو التعجب. الفاصلة المنقوطة للتوقف والتعداد البسيط. النقطتان فوق بعض تفيد التوقف استعداداَ لعد وتفيد في تفريق الساعة ذات العد الستيني عن الأرقام العشرية (نكتب الساعة 9:35 وليس 9.35). الفاصلة استغناء مؤقت عن النقطة لحين استكمال الفكرة، وليست تريثاً أو فسحة تنفس كما يحلو للبعض استخدامها.

 

لا معنى لنقطة وعلامة استفهام. الاثنتان نقطة، لكن الثانية تفيد الاستفهام. التكرار لا يفيد لأن مثلما لا تؤثر ضمتان أو كسرتان على الحرف، فإن؟؟ لن تزيدنا تساؤلاً. إما أن نسأل أو لا نسأل. في بعض الأحيان ؟! أو !؟ صارت خطأ دارجاً ولكن ممكن تمرير واحدة منها في كامل النص، على أن لا نخنق النص بها. أقسِمُ لكم إنَّ "النص كلمة وليس تنقيطاً". عليكم و بحسب رأينا المتواضع أن تُدرِّبوا أقلامكم على "الجملة القصيرة المنقوطة فهي أفضل الحلول. لنا دليلان. كلام الله في تنزيله. الجملة القرآنية من أقصر الجمل المكثفة. وشعر العرب الذي أمسك على نفسه صدراً وعجزاً و اتمَّ المعنى ببيت".

 

الملاحظات السابقة كانت سوطاً جلدني مرَّة. كبيرُ صحيفة "العرب اللندنية" عاب عليَّ "عندما تكتبون تكثرون من الفواصل لدرجة قد تتسبب في (تعثر) القارئ عند محاولته فهم الجملة. قمت بشطب الكثير منها لتكون سلسة". اعترِفُ بأنَّي أُكثِر من الفواصل فكُلُّ جملةٍ لي جنةُ عدن وكبشُ إسماعيل. أيُّ كاتب يقول العكس هو كاذب.

 

الجلدةُ الثانية جاءت بسبب مقالٍ لي استخدمتُ فيه صيدلية "كوزمتك" و زدتهُ طيوراً و أجنحة "الإكثار في الاستعارات الايحائية، مثل رموش ومسكارا وعصافير و زرازير وسليكون إعلامي. لا شك أن هذه الاستعارات مفيدة، لكن الإكثار منها في مقالٍ واحد يجعل الأمر يبدو وكأنه افتعال أو استعراض لغوي. شخصياً استعيرُ في مقالاتي، وأنا مع الفكرة. الاعتراض على الإكثار وليس الفكرة".

 

كاتب المقال يحتاجُ إلى الرشاقة اللغوية والبخل في عدد الكلمات حتَّى إن كان يُحلِّل حدثاً مُعقَّداً. المجازات والاستعارات تسرقُ العديد من الكلمات. كُثرتُها ثرثرة و المطلوب منها أن تعمل كـ آه يا عين. المثال على ما ذهبنا إليه هو عندما تكتبُ عن الأحداث السياسية و التي غالباً ما تكون متشابكة فإنَّ الاستعارات التي تظنُها نافِعة لتطييب مذاقها كأنها رشَّةُ سُكر أو حبة ملح، يجِدُها القارئ بوفرة في البيانات الرسمية و الخطابات الحزبية.

 

هاتان الجهتان تُكثِران من الاستعارات لتقولان الشيء القليل بأكبرِ عددٍ من الكلمات. المؤثرون "السوشياليون" بدورهم يلجئون لذلك، لإخفاء السطحية وادِّعاء العُمق. النتيجة أنت مُطالب بالإيمان بأنَّك تكتب عن حدثٍ كتب عنه العشراتُ قبلك على أقل تقدير. إذاً ما العمل؟.

 

غامر باختيار عنوان مُثير لكن ليس على حِساب المتن. حالما يبدأ القارئ بالمقارنة بين المتن والعنوان من المُستحسن لمستقبلِك ككاتب أن يجد معلومة. غلِّفها بعدها كما تحب باستعارات تشد أزر السياق لا كي يُصبح نصُّك كرنفال عناوين، أي سماء بعيدة عن أرض الحدث.

 

تشظي المشهد الإعلامي يا صديقي الكاتب، هو أهمُّ الأسباب التي خفَّضت حظوظك من أن يكون لك جمهور. أنت الآن في الزمن الرقمي تمتلك قُرَّاءً مُخلصين وهم قلَّة وقُرَّاءً عابرين هم الأكثر. تُريد أنت أن تزيد من القِلَّة وتُحفِّز الكُثرة على الاستمرار كـ عابرين إليك لا عليك. أغرِهم إذاً. اختر مجازات أو استعارات ترصف الطريق الذي تسير فيه المعلومات شريطة أن يكون ذلك في نهاية كل فقرة أو في منتصفها، للحفاظ على التماسك و عيون القارئ. الاختيار المثالي يكون من ألبوم الصور القريبة لقلب القارئ للاستفادة من وعيه الجمعي. لا تنسى تغليفهُ بواجهاتٍ حجرية من التاريخ و إلا كان مقالُك الجميل فانوساً بلا جني و أنت لست علاء الدين.

 

قداسة النص التي لا يعترِف بها المُحرِّر للضرورات المهنية ولسوء حظه ليست مزاجية. القُدسية الافتراضية لِما تكتُب يقرِّرُها النص ورشاقةُ أسلوبِك. المحرر سيكون مضطراً لتقييم إن كانت هناك علاقة جنينية بين رداءة بعض ما موجود في النص وألمعية فكرتك. الحظ السيء سيدفعهُ إلى أن يكون هاملت تحريري متسائلاً: "هل اجتثاثُ الرديء سيترك ألمعية الفكرة سليمة".

 

الكثيرُ من القراء قد يبحثون عن الأسلوب لهضم المضمون. المحرر مُطالب بضمان أن يكون الشكل النهائي للأسلوب متوافقاً مع ذائقة القارئ لهذا الكاتب أو ذاك. بربكم ألا تجِدون إن شكسبير كان مُحرِّراً قبل أن يكون كاتباً!

 

قداسة النص مؤقَّتة وأسلوب الكاتب قد يكون حصى في كلية النص أو ردَّةُ حسنٍ فيه. انصحُ الكاتب بأن يُطالِب المُحرِّر بعدم رحمة نصِّه الصنم. اتركوه كي يصنع منهُ صنماً من تمر عساهُ يؤكل.

مسار عبد المحسن راضي كاتب وصحافي وباحث عراقي

نُشرت في الخميس 22 مايو 2025 03:15 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.