أزمة المياه في البصرة، التي وصلت إلى ذروتها في السنوات الأخيرة، أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً لملايين المواطنين الذين يعانون من شح المياه المخصصة للشرب والاستخدام اليومي وعلى الرغم من المبالغ المالية التي تم تخصيصها لحل الأزمة، والوعود الحكومية المتكررة، ما زال سكان المحافظة يواجهون مشاكل جسيمة تتعلق بجودة المياه ووفرتها.
وفي ظل "فشل متكرر"، كما يصفه عديدون، يعاني سكان محافظة البصرة من أزمة مائية خانقة قد تكون الأكثر إلحاحاً في تاريخهم الحديث. ورغم الأموال الطائلة التي تم رصدها لحل الأزمة، فإن الواقع على الأرض يشير إلى "فساد مستشري، وتخبط حكومي، وحلول مؤقتة لا تلامس معاناة الأهالي".
وبينما تستمر الحكومة في إصدار وعودها الخاوية، تظل مياه الشرب التي تصل إلى منازل المواطنين غير صالحة للاستهلاك، ملوثة، ورائحتها كريهة، مما يزيد من عمق الأزمة التي يواجها أكثر من 3 ملايين نسمة، وفي وقتٍ تفتقر فيه البصرة إلى أبسط مقومات الحياة الأساسية تبقى الحكومة في موقف المتفرج، تاركة مواطنيها يغرقون في صمت العطش.
تجاوزات وفساد.. الحلول المؤقتة تثير القلق
وأطلقت الحكومة المحلية في البصرة حملة واسعة ضد التجاوزات على شبكات المياه، في محاولة للحد من الفوضى التي تعيشها شبكات الإسالة، بحسبها.
زيد الإمارة، النائب الفني لمحافظ البصرة، قال في حديث خاص لمنصة "الجبال" إن "الحملة استهدفت وقف التوصيلات غير القانونية التي تتسبب في هدر كميات كبيرة من المياه، إضافة إلى محطات غسل السيارات غير المرخصة التي تستهلك كميات ضخمة من المياه في ظل غياب أي نوع من الرقابة”.
وأضاف الإمارة “نحن ملتزمون بالقضاء على هذه التجاوزات، التي تؤثر على توزيع المياه بشكل عادل بين الأحياء السكنية والمناطق الزراعية والصناعية”.
أزمة تتعدى الحدود المحلية
الخبير البيئي جاسم الأسدي، مدير منظمة “طبيعة العراق”، يرى أن الأزمة في البصرة لا تكمن فقط في التجاوزات المحلية، بل في تحديات بيئية وسياسية معقدة تتعلق بإدارة المياه على المستويين الإقليمي والدولي.
وقال الأسدي لمنصة "الجبال": “المشكلة تتعدى سوء التوزيع الداخلي، فهي ترتبط بشكل أساس بتقليص الإطلاقات المائية من الأنهار المشتركة مثل دجلة والفرات، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية التي تعاني منها الأهوار العراقية نتيجة السدود التي تقيمها دول الجوار".
وأشار الأسدي إلى أن "إغلاق نهر الفرات في عام 2010 وجه المياه نحو الأهوار دون تعويض كاف من نهر دجلة، ما أثر بشكل كبير على توازن توزيع المياه في جنوب العراق، خاصة في البصرة". ولفت إلى أن إيران قد أقامت عدة سدود على نهر الكرخة، ما أدى إلى نقص المياه المتدفقة نحو شط العرب والأهوار العراقية.
سدود لا تنفذ
وبينما تسعى الحكومة المحلية إلى معالجة هذه الأزمة من خلال حملات الرقابة، يشير الأسدي إلى أن الحلول الجذرية لا تزال غائبة. وفي معرض حديثه عن الحلول المستقبلية، كما شدد الأسدي على أهمية إنشاء سدود على شط العرب للحد من تداخل المياه المالحة مع المياه العذبة، وهو مشروع لم يتم تنفيذ أي جزء منه حتى الآن.
وقال الأسدي: "لقد طرحنا عدة مواقع لإنشاء سدود على شط العرب، مثل رأس البيشة وأبو فلوس والعشار. لكن هذا المشروع لم يحقق أي تقدم حقيقي بسبب غياب التنسيق الإقليمي والسياسي، وكذلك التحديات المتعلقة بالسيادة”.
وأضاف الأسدي: "نحتاج إلى خطة استراتيجية موحّدة لإدارة ملف المياه في العراق، تشمل التنسيق بين الوزارات العراقية المختلفة وتعاوناً مع دول الجوار لضمان حقوق العراق المائية”.
تأثير الأزمة على حياة المواطنين
في البصرة، يرى المواطنون أن الحلول المقدمة لا تلامس معاناتهم اليومية. محمد كاظم، أحد سكان قضاء شط العرب، تحدث عن معاناته مع المياه الملوثة قائلاً: “المياه التي تصل إلى منازلنا مليئة بالملوحة، في بعض الأحيان تكون ملوثة برائحة كريهة وكأنها مياه صرف صحي. نواجه مشكلة في الحصول على مياه صالحة للشرب رغم الوعود المتكررة من الحكومة”.
وأضاف كاظم لـ "الجبال": “لقد تم تخصيص مبالغ ضخمة لهذا الملف، لكن الوضع لم يتغير. الأموال تهدر على مشاريع وهمية، فيما يعاني المواطنون من هذه الأزمة بشكل يومي". وأوضح كاظم أن العديد من الأهالي لجأوا إلى شراء المياه من المحطات الخاصة لتلبية احتياجاتهم، ما يزيد من الأعباء المالية على العائلات.
عائق أمام حلول فعالة
يؤكد كاظم أن السبب الرئيس في تفاقم الأزمة يعود إلى الفساد المستشري في القطاع العام. ويقول إنه "يتم صرف الأموال على مشاريع غير مدروسة، ولا يتم تنفيذها بشكل جيد. الفساد يحول دون تنفيذ حلول حقيقية، وأصبح المواطن هو المتضرر الأول".
هل من حلول؟
وذكر بشير الأسدي أن "مياه البصرة هي أكثر من مجرد قضية بيئية؛ إنها قضية أمن ووجود. إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة الآن، فإن العواقب ستكون وخيمة على مستقبل المحافظة”.
وأردف "نحن بحاجة إلى حلول استراتيجية طويلة الأمد تشمل مشاريع مائية ضخمة، بالإضافة إلى التنسيق بين الجهات المحلية والمركزية، كذلك التعاون مع دول الجوار لإدارة الموارد المائية بشكل عادل. إذا لم يتم التعامل مع هذه الأزمة بشكل فوري، فإن حياة الملايين من المواطنين ستظل مهددة".