حضرتُ ملتقى السليمانية في نسخته التاسعة المنعقد في الجامعة الأمريكية، وتابعت جلساته ونقاشاته على مدى يومين متواصلين، الملتقى لم يكن مجرد فعالية تقليدية كما نشهدها في العاصمة بغداد والتي تعتمد البروباغاندا للسلطة والأحزاب، بل بدا واضحاً أن الملتقى نجح هذا العام في أن يكون منصة جدية لمختلف الآراء والأيدولوجيات، إذ جمع الملتقى ثلاثة مستويات رئيسية:
الأول: الرسميّون سواء كانوا حكوميين اتحاديين أو من حكومة الإقليم وممثلي الأحزاب السياسية في العراق والدبلوماسيين العرب والأجانب .
الثاني: النخب الأكاديمية ومراكز الأبحاث وصنّاع الرأي العراقيين ومن مختلف الدول الأخرى .
الثالث: ومثله وسائل الإعلام العراقية والكوردية والعربية والغربية .
الخطاب والرأي والموقف الرسمي لم يكن غائباً، بل على العكس، شارك عدد من المسؤولين بطرح أفكار مهمة، وبعضها اتسم بالصراحة كحديث راعي الملتقي الدكتور برهم صالح رئيس الجمهورية السابق وصل الأمر لبعض المسؤولين الآخرين بتشخيص الخلل في عدد من الملفات بين بغداد وأربيل والقضايا الإقليمية، وهو أمر يستحق الإشارة له في هذا الملتقى، نعم لم تخلُ بعض المداخلات من نبرة الترويج للإنجازات غير الموجودة إلا في مخيلة المسؤول، وهو أمر متوقع في مثل هذه المناسبات لكنه لم يطغَ على الجو العام.
ما يلفت النظر في هذا الملتقى تحديداً، هو الدور الذي لعبته النخب الأكاديمية ومراكز الأبحاث التي اعتلت المنصّات أو في أروقة الجامعة الأمريكية، فقد طُرحت مقاربات تحليلية متعددة لملفات حساسة تشغل الواقع العراقي والإقليمي، ورغم أن قدرة هذه النخب على التأثير قد تكون محدودة في القرار محدودة، لكنها لعبت دورها الطبيعي في تقديم الرأي والمعرفة والتحليل، لا اتخاذ القرار .
الميزة اللافتة في ملتقى هذا العام كانت القدرة على جمع "الأضداد" في قاعة واحدة، حضر رسميون ونخب من توجهات متباينة، وبعضهم على خلاف سياسي وفكري عميق، ومع ذلك خاضوا النقاش وجهاً لوجه، وهذا بحد ذاته نجاح يُحسب للملتقى، وللقائمين عليه الذين أظهروا وعياً كبيراً في اختيار نوعية المشاركين، بما يخلق بيئة حوار حقيقية، لا مجرد استعراض للكلمات.
على المستوى الشخصي، سنحت لي الفرصة لإجراء لقاءات جانبية مع شخصيات وجهات سياسية أختلف معها فكرياً، لكننا تحدثنا وتبادلنا وجهات النظر، هذه اللحظات هي التي تصنع الفرق، وهي ما يجعل من الملتقى مساحة للتفاعل الحقيقي، وليس فقط جدولاً للجلسات.
اعتقد أن القدرة على جمع الأطراف المختلفة على طاولة واحدة كانت السمة الأبرز لملتقى السليمانية التاسع. ومع أهمية الطروحات التي قُدمت، إلا أن التحدي الأكبر يبقى في مكان آخر ويتمثل بعدة أسئلة: هل يستمع الرسميون حقاً لما تقوله النخب؟، وهل يمكن ترجمة هذه النقاشات إلى سياسات ومبادرات واقعية؟.
في زمن الاستقطاب والتوتر، يظل اللقاء وجهاً لوجه أحد أهم وسائل كسر الحواجز، وربما البداية لأي تغيير، وبهذا المعنى، فإن الملتقى التاسع لم يكن مجرد حدث سنوي، بل مساحة مفتوحة للأمل والعقل والحوار.