ربما كانت الإذاعة الألمانية في عهد زعيم ألمانيا النازية، أدولف هتلر، هي النموذج الأول للضجيج الإعلامي وصناعة الأوهام، من خلال عمليات غسل الأدمغة وتسطيح الرأي العام، حيث تبلورت تلك الصناعة في مقولة وزير الدعاية النازية، جوزيف غوبلز: "اكذب حتى تصدق نفسك".
ومنذ ذلك الحين، تكاثرت "إذاعة برلين" في عواصم الشرق الأوسط، إذ وجدت بيضها مفرّخاً في شتى الأرجاء، بدءاً من أجداد نتنياهو الذين رفعوا شعار "إسرائيل من البحر إلى النهر"، وصولاً إلى أحمد سعيد، الذي لا يزال أحفاده يرمون إسرائيل في البحر، من سواحل غزّة التي احترقت بشعارات الإعلام البائس.
ولا يختلف الأمر كثيراً عن الضجيج الإعلامي الذي صاحب حروب أنظمة الحكم في بغداد، حيث التصريحات النارية التي أطلقها مسؤولوها، وفي مقدمتهم كبيرهم الذي علمهم السحر، فتارة تخدير بوعود النصر، وتارة أخرى خطاب بدوي ملتهب يعد بحرق نصف إسرائيل، التي لم تغرق في بحر أحمد سعيد، ولا انتحر الأميركيون عند أسوار بغداد، بل اخترقوا جدرانها واجتاحوا كل العراق!.
ويبدو - والله أعلم - أن هذا النوع من الإعلام ومروّجيه يتوالد ويتناسل من أصل واحد، أو متشابه حد التطابق في تركيب كروموسوماته وخلايا تفكيره وزوايا نظره، فقد كانت دمشق صورة مستنسخة من بغداد في إعلامها التهريجي، حينما هدد "أسدها" الهارب، العالم بزلزال يحرق الشرق الأوسط إن سقط نظامه، لكنه هرب من قفص الوطن، ولم يكن هناك زلزال سوى في أوهامه.
واليوم، رغم النكبات والكوارث التي ضربت بغداد ودمشق وطرابلس الغرب وصنعاء وغزّة وجنوب لبنان، ما زالت جعجعة الإعلام الذي سيطرت عليه ميليشيات تستخدم الدين والطائفة معبراً ونفقاً لفسادها المالي، تلك الجعجعة التي تصدع الآذان بشعاراتها وضجيجها، في الوقت الذي تشهد بأم عينها تهاوي هياكلها منظماتها وأحزابها وزعمائها وكهنتها، واحد تلو الآخر، من الذين دمّروا بلدانهم وأفقروا شعوبهم بعد أن خدروها بشعارات الوهم والخرافة المستوردة من معبد آمون لإبعاد النيران عن حافات معبده!.
الأيام القادمة حبلى بالأحداث، لكن المؤكد أن الشعارات التي طالما كانت سلاحهم في تغييب وعي الناس عبر منظومة دعائية وقنوات تلفزيونية، لن تحرق إلا أنظمتهم، تماماً كما حصل في دمشق ولبنان وغزّة واليمن، وخلاصة القول إن جعجعة فناجين الإعلام الزائف قد تصنع ضجيجاً ووهجاً مؤقتاً يُطرب أصحابه، لكنه لن يغير الحقائق، ولن يوقف عجلة التاريخ التي لا ترحم السائرين عكس اتجاهها.