يوصي جدي وهو يعيش حفنة أيام من آخر عمره أن يكون "فاطم النخيل" رقيقاً وهو يقلعها من أمها. يوصيه كذلك أن يحافظ على أكبر عدد من الجذور في قاع النخلة الصغيرة المفطومة.. كل هذا وجدي يدرك تماماً بأنه من المستحيل أن يرى يوماً هذه النخلات وهي تُثمر، ربما حتى آباءنا يتوصلون إلى محصلة كهذه في ظروف معينة، ففي موسم الربيع، تتماهى حسابات الزمن للفلاحين مع الأشجار، "قبل أن يولد أباك زُرعت هذه النخلة"، يشير جدي، "وهذه نخلة أمي"، يتحدث عن نخلة هرمة تشبه معالم جبهته.
لم يكن جدي "1919ـ2021م"، يفهم أهمية التأثيرات المناخية للتصحر والجفاف، ولا هو من العارفين بكيفيات التغيّر المناخي، ولم يسمع بتأثيرها على الكون، لكنه بقي يزرع النخل وباقي الأشجار، ويسقيها بماء الوضوء حتى وأن كان مدركاً بأنه لا يرى غرسها لاقتراب الأجل، هذه أخلاقيات للعطاء لم يتعلمها من كتاب ولكن تحدث "بول كيرتز"، وباقي الأخلاقيين عن العطاء بلا ثمن، وعلى طريقة "زرعوا فأكلنا .."، يمكننا أن نتصرف بالنص لنقول "زرعوا فأكلنا وتنفسنا وتنظمنا.. والخ".
آلفت مشهد وضوئه فوق تربة الأشجار القريبة من دارته، مقتصداً بالماء.. هذه الأخلاقيات تعلمها بالطبع من استقراره في حقل سلوكي واحد، وهو بالتأكيد الزراعة، إذ أنّ الاستقرار يؤدي إلى أنّ تبدأ عملية إنتاج الحضارة بما تحتويه من ثيمات اجتماعية وثقافية. تعلم الجد هذه السلوكيات الأخلاقية من "الكار"، الذي امتهنه وأبناء جيله.
يُفهمنا الفرنسي "بيير بورديو" حسب نظرية الحقل المعرفي، بأن الأفراد الذين يشكلون جماعة داخل مهنة معينة، يكونون داخل حقلها في علاقة تبادلية، فبقدر ما يفرضون عليها أخلاقياتهم وتصوراتهم، تفرض هي عليهم ذلك، فهذه طبيعة الجماعة إذا ما استقرت.. تتحرك أخلاقياً تجاه الأرض والزرع وفق سليقتها ومصلحتها العامة، وفي حالة تخلل هذا الاستقرار، فإنّ الناتج دون شك هي الفوضى وضياع الهوية!
بساتين النخيل واللوز والتفاح
كان هذا الرجل وآباءه من مصلحي الأرض اليباب بداية القرن المنصرم حتى وفاته، في جعبته لوحده نحو ألفي نخلة مثمرة اليوم. هذا كاف لأن يكون منتجاً مستديماً بطريقة ثورية. جيل الجد وهذا ما سبقه من أجيال قليلة هم الذين صنعوا وطوروا بساتين هذه المدينة، صنعوا الظاهرة البستانية لها، والتي تتميز عن باقي الأراضي الزراعية كما أسلفنا من جانب الاستقرار، إذ انّ طبيعة البساتين القديمة، لأن فيها الأشجار المعمرة الثابتة، وهي من تصنع الاستقرار، وبالتالي تولد التنظيم، عكس المحاصيل التي هي موسمية.
إنّ بساتين النخيل هي السمة الأعم والوحيدة لطبيعة هذه البساتين، فالنخلة أمٌ يُستظل بظلها البشر وباقي الأشجار. جابت هذه البساتين التاريخية "اللييدي درور" المستشرقة البريطانية، وصفت نخيلها وأشجار الفواكه فيها، اذ تقول في كتابها "على ضفاف دجلة والفرات"، وعلى "مسافة تقترب من ميل خارج المدينة القديمة، ومن بعيد تتراءى قباب كربلاء ومنائرها بين النخل. إن شذى زهور الأشجار هو أول ما تستروحه في مسرى نسماتها الحلوة العليلة .. وأنت مقبل على المدينة، ويتكاثف الشجر، ويطالعك بعده منظر ساحر فتان. هذا نور كثير من أنوار اللوز والتفاح. إنه يتلألأ بين النخيل، وتتدلى أغصان شجره القائم على حفافي نهر الحسينية فوق صفحة مائها الصاقي الرقراق. وهذا طريق آخر بين الجنائن ويفضي إلى المدينة نفسها".
وبالطبع، ما تقصده "الليدي درور" في وصفها يتعلق بالمساحات البسيطة من البساتين التي كانت تحيط بالمدينة، بداية القرن المنصرم من جوانبها الشرقية مروراً بالجانب الشمالي، ووصولاً إلى جانبها الغربي. إنّ هذه المساحات التي تشكل هلالاً على المدينة من جوانبها الثلاثة، هي البؤر التي تطورت منها هذه البساتين وامتدت لتتوسع إلى آلاف الدوانم التي عُمر فيها النخيل والأشجار في عقود تالية. صارت هذه البساتين غابات كثيفة وواسعة، قبل هجوم العمالقة الشرهين عليها وتحويلها لـ"واد غير ذي زرع".
هجوم العمالقة
مثّلت هذه البساتين تاريخياً هوية المدينة الجمالية، إذ كانت كأنها تستقر وسط هلال يحيطها من البساتين الكثيفة الواسعة، وفي عمق هذا الهلال تجلس المدينة القديمة التي في مركزها مرقد الإمامين، فمن هذا المركز وإلى هذه البساتين من جهتها الشرقية وشمالاً حتى جهتها الغربية، وهو الخط البياني للهلال البستاني الكثيف والواسع لا تتجاوز المساحة تاريخياً سوى ميلاً واحداً. بعد هذا الميل يبدأ الهلال بالتوسع عكسياً ضارباً في عمق بساتين ضواحي كربلاء، مشتبكاً مع سعف نخيل بساتين الحر والحسينية وجهة طويريج شرقاً، فالمدينة محاطة بطوق البساتين هذا، وتتجه جنوباً بتمدد وتوسع عمراني طبيعي وسط الأراضي البيضاء "الخالية من الزراعة" وصولاً إلى الصحراء، فهذا هو مخطط المدينة العمراني لتوسعها، حسب ما تم رسمه تاريخياً في أوليات البلدية وفي رأس مهندسيها.
لم يكن تجريف هذه البساتين عادياً، ولا هو جزء من مخطط اعتيادي لتوسع المدينة أو شيء وارد على المستوى الطبيعي للتطور وزيادة السكان، ونحن نشعر بكونه غير عادي بالقياس على حجم التجريف والنتائج الواقعية للحدث، إذ تدور قصتنا هذه عن حوالي 25 ألف دونم من البساتين التاريخية للمدينة تم تحويلها إلى عشوائيات سكنية بامتياز، وهي واحدة من أكبر عمليات تخريب البيئة في عصرنا الحديث، وربما ما يُضاهي فداحة وحجم التخريب البيئي هذا هو فعل تجفيف الأهوار من قبل نظام البعث.
وبمجرد أن استحكم الفساد على مؤسسات الدولة وهيمنة النزعة الميليشياوية في الحكم والسيطرة، هجم هؤلاء جميعهم على هذه البساتين.. كان الفعل حكومياً من الباطن ومن الظاهر يتحكم به ويديره تجار لديهم نفوذ، وهذا مالم يعترف به أحد طوال الفترة السابقة إلا بعد خراب البصرة، إذ وفي تصريح أخير للإدارة المحلية في كربلاء، أقرّت بأن ما حدث من كارثة هو بفعل "متنفذين"، كانت دعاية تبرير هذا الفعل تتمحور حول هجرة كبيرة تتعرض لها المدينة، وبالتالي كانت هذه البساتين القريبة من المدينة القديمة وجهتهم الأولى، لكن الحقيقة دائماً تمكن خلف الخطابات الشائعة، فهذه البساتين بقربها من مركز المدينة القديمة، تمثّل مركزاً جاذباً لسكن الزوار، وبالتالي فهي مساحة ناجحة للاستثمار وبناء الفنادق والحسينيات للمتنفذين، وهذا ما صار واضحاً بعد أن دخلت البلدوزرات هذه البساتين وحولتها إلى أراض بيضاء مقتلعة نخيلها وأشجارها المعمرة، صارت مركزاً سكنياً استقطب القادم الثري لشراء قطعة أرض صغيرة قريبة من حرم الإمامين، وعلى الرغم من الغلاء الكبير لهذه المناطق، إلا أنه سرعان ما توسع هذا السكن، وصار مشهد "البلدوزر" الذي يجوب البساتين مألوفاً.
عشوائيات بسعر عواصم العالم
مئات البساتين بآلاف الدوانم وبما يفوق المليون نخلة حسب إحصائيات رسمية وقرابة الخمسة ملايين شجرة معمرة، كل هذا تم تحويله إلى بلوكات سكنية تفتقر إلى أدنى مستوى من التنظيم الحضري والذوق العمراني، وفي الواقع؛ أنت أمام آلاف الدور بمساحة مئة متر مربعة تزيد أو تنقص، متلاصقة مع بعضها البعض، وتتوزع على شوارع ضيقة جداً تشبه شوارع الحارات القديمة. إنك إذ تدخل في هذه المناطق المكتظة سكنياً، ستكون أمام مشهد يشابه أكثر المناطق عشوائية في العراق. الفرق الوحيد أنها تحتوي على فنادق وحسينيات فاخرة في مقدمتها، لذا فبمجرد أن يخطر ببالك بأن هذه العشوائيات كانت بساتين عظيمة للتمور والفواكه، لها شهرتها في مناطق الفرات الأوسط، فأنت دون شك ستصاب بالصدمة حتى وإن كنت لم ترى هذه البساتين طوال عمرك.
وعلى الرغم من هذا، فإن الفرد العادي ذو الدخل المحدود، لا يمكن له شراء قطعة أرض مناسبة، فسعر قطعة أرض بسيطة ضمن هذه العشوائيات بمساحة لا تزيد عن مئتي متر، ربما يتجاوز سعرها المئتي مليون دينار، فهي بالنهاية وإن كانت عشوائيات وغير مرخص البناء فيها ومشتريها لا يملك صفة قانونية رصينة لتملكها، إلا أنها رغم ذلك باهظة الثمن، لدرجة أنها ربما يفوق سعرها الفلل الفاخرة في بلدان أخرى.
ثمة معياران يحكمان حركة السوق في هذه المناطق، أولها قرب هذه المناطق من مركز المدينة القديمة حيث الإمامين، وثانيهما حجم الاستثمار الاقتصادي فيها، فهذه المناطق صارت تحتوي على مئات الفنادق ومراكز التسوق، والكثير منها تابعة لمتنفذين مستغلين هذه الأراضي لقربها من مركز المدينة، وهذا ما جعل من هذه المناطق جاذبة للسكن، وبالتالي تم صنع مناخ إيجابي لفتح أسوار المزيد من البساتين لـ"البلدوزرات".
فضيحة قانونية وتخادم اقتصادي
إنّ قوانين الدولة العراقية منذ تأسيسها وحتى هذه اللحظة وبشكل صريح، منعت تحويل البساتين والأراضي الزراعية وتغيير جنسها إلى أراضي سكنية، ودون الدخول في تفاصيل هذه القوانين، فإنها كذلك وضعت عقوبات رادعة، وتبريرات هذه النصوص تنطلق من سردية أن هذه البساتين تمثل أرثاً وطنياً، وكذلك توازناً بيئياً، فالبستان الذي يتجاوز عمره القرن من الزمان بنخيله وأشجاره المعمرة هو مقدس من وجهة نظر القانون! إلا أن ما حدث هو فضيحة قانونية بعد أن أسلفنا في فضيحتها الأخلاقية.
لم يضع القانون إلا استثناءات نادرة تتعلق بحقوق الدولة نفسها في هذه البساتين في تحويل جنسها وفقاً للمصلحة العامة، وبالطبع هذه الاستثناءات لم تحصل وفق السياقات القانونية لتي رسمها القانون إلا مرات نادرة، وهذه الاستثناءات بالطبع ليست لها علاقة بتخريب 25 ألف دونم وقلع مليون نخلة مثمرة وملايين الأشجار المختلفة من بساتين كربلاء التاريخية. قائممقام المدينة تحدث عن "تهاون قضائي" في هذه القصة، وأشار إلى أن "هذا الاختصاص تم سلبه من دائرتنا وإحالته إلى القضاء"، وكان هذا "أحد أسباب التهاون مع هؤلاء المفتيين، كون أن إجراءات القضاء تتطلب وقتاً، وتنتهي بحكم بسيط وفي أغلب الأحيان تكون العقوبة الغرامة"، حسب تصريحه في أحد المواقع.
تعتبر مدينة كربلاء من المدن ذات الصحاري من جانبها الجنوبي بشرقه وغربه، وهو شريط يطوّق المدينة ويهيمن على ذلك الجانب بأكمله، وهي من أكثر المدن عرضة للتصحر بحسب مختصين. إنّ الحزام الأخضر الذي انشئ لصد التصحر ومعالجة الأتربة والذي صُرف عليه أكثر من سبعة ملايين دولار، تعرض هو الآخر للتصحر! وليست له أي قيمة، فمع خراب هذا المشروع، والذي تزامن إنشائه مع بداية حملة تخريب البساتين السالفة، صارت كربلاء بلا رئة صالحة للتنفس! بساتينها التاريخية هي الآن عشوائيات سكنية، وحزامها الأخضر من جهتها الصحراوية تحول إلى يابس مقفر، ورغم هذا كله؛ بدأ الخراب يدب في بساتين أقضية المدينة ونواحيها، فبعد أن انتهى العمالقة من تخريب بساتين المدينة، اتجهوا مسرعين لهذه البساتين.
وقبل فترة وجيزة، وبعد إعلان نصيف الخطابي، محافظ المدينة عن تشكيل لجنة لإيقاف تفتيت الأراضي الزراعية، افتتح هذا المحافظ مخزناً أهلياً للتمور وسط هذه البساتين. كان هذا المخزن قد بُني على رفات ألف نخلة تم اقتلاعها من جذروها، بمجزرة تشبه المجزرة التي قام بها حسين كامل بنخيل كربلاء عام 1991 إبّان الانتفاضة الشعبانية.