للسنة الرابعة على التوالي، يلقي الجفاف بظلاله الثقيلة على الأهوار جنوبي العراق، التي تعد إرثاً حضارياً مدرجاً على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، حيث ارتفعت نسبة الملوحة في المياه، ونفقت الحيوانات نتيجة لعدم ملائمتها للأوضاع هناك.
وأشرت الأمم المتحدة في بيان لها خلال تموز/يوليو الماضي 2024، الخطر الكبير حيث، قالت إن "موجة الجفاف الحالية هي الأسوأ منذ 40 عاماً والوضع "مقلق" على صعيد الأهوار التي خلا 70% منها من المياه".
وتعتبر أهوار العراق مساحات رطبة موزعة بين الجبايش والحويزة والحمّار، وصنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في 2016، تراثاً عالمياً، لكنها أصبحت تتلاشى تدريجياً، ومعها حضارة سكانها الذين يعيشون على صيد الأسماك والحيوانات وتمتد جذور حضارتهم في هذه المناطق إلى 5 آلاف عام.
غمر المياه.. وغمار التفاوض
في هذا الصدد تحدث الناشط البيئي، جاسم الأسدي، عن فقدان الأهوار العراقية لـ "نسبة كبيرة من مستويات الإغمار خلال السنوات الأربع الأخيرة"، مبيناً أن "نسبة الإغمار في الأهوار أصبحت قليلة جداً".
ويقول الأسدي، لـ"الجبال"، إنّ "أعلى نسبة إغمار في الأهوار بلغت 96 % في عام 2019، لكنها انخفضت إلى حدود 15 % أو أقل حالياً"، مبيناً أنّ "ذلك بسبب السياسة المائية لدول الجوار وسوء التوزيع الذي حصل في عامي 2020 و2021 و 2022 بوجود الوزارة الجديدة التي استلمت مهامها بتلك الفترة".
ويضيف أنّ "السنوات المذكورة شهدت بداية انخفاض مناسيب المياه الكلية إلى 9 مليارات متر مكعب في السدود الثلاثة الرئيسية للعراق وهي الموصل وحديثة ودوكان، إضافة لبحيرة الثرثار"، معتبراً أن "الأهوار بحاجة لخطة تعيد إغمارها من جديد وفقاً للمعطيات التي حدثت بين عامي 2004 و 2024 ".
ويؤكد المختص البيئي، أن "منظمة اليونسكو لن تستطيع فعل شيء لإنقاذ الأهوار لأنها من أضعف منظمات الأمم المتحدة"، مستدركا بالقول: "لكن المنظمة بإمكانها توفير جملة من الإجراءات في تفاوض العراق مع تركيا"، مؤكداً "عدم إمكانية تحقق ذلك بدون وضع سلة من القضايا للدخول بمفاوضات جادة مع تركيا، مثل النفط ووجود حزب العمال الكردستاني والزراعة والمياه".
ويبين الأسدي، أنّ "أزمة الأهوار هي موضوع داخلي ومحلي، ولا تستطيع أي دولة أو منظمة دولية إعطاء الاهوار كمياتها المناسبة من المياه بإطلاقها من تركيا أو من إيران بالنسبة لهور الحويزة".
وتشير آخر التقديرات إلى أن مساحة الأهوار تبلغ اليوم حوالى 4 آلاف كيلومتر مربع، بتراجع قدره 20 ألف كيلومتر مربع عن تسعينات القرن الماضي. ولا يزال يقطنها نحو بضعة آلاف من السكان، إذ يعود هذا التراجع خصوصاً إلى ارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار، ما دفع في السنوات الأربع الأخيرة الأهوار نحو الخراب، فيما كانت تعاني أصلاً بفعل سدود بنتها تركيا وإيران على نهري دجلة والفرات، بالإضافة إلى إدارة تقليدية للمياه يرى خبراء أنها غير مناسبة.
وتصنف الأمم المتحدة العراق من بين الدول الخمس الأكثر تضرراً من بعض تداعيات التغير المناخي، فالأمطار قليلة جداً، وبحلول العام 2050، من المتوقع أن يزداد معدل الحرارة السنوي بدرجتين ونصف الدرجة المئوية، وفق البنك الدولي.
ضحية دول الجوار
من جهته، يقول المتحدث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، لـ"الجبال"، إن "الأهوار خسرت أكثر من 40 % من مساحاتها المائية نتيجة للجفاف الحاصل وقلة الإيرادات القادمة للعراق من دول المنبع"، فيما يؤكد أنّ "الجهد الدولي من اليونسكو والمنظمات الأخرى مستمر للحفاظ عليها من قلة مناسيب المياه".
ويوضح شمال، أنّ "كل المنظمات الدولية وأولها اليونسكو تدعم جهود الحفاظ على الأهوار العراقية بمواجهة خطر الجفاف، ويتم العمل على استثمار كونها مدرجة على لائحة التراث العالمي لتأمين الحصص المائية بالمفاوضات الجارية مع دول المنبع"، مضيفاً أن "الأهوار ليست مسطحاً أو خزاناً مائياً، ولا تأخذ كميات مياه ثابتة بل نسبة من الإيرادات المائية ولهذا عندما تنخفض كميات الإيرادات في البلاد تتضرر الأهوار تلقائياً والعكس صحيح".
وتابع، أن "الأهوار ترتفع مناسيبها عندما تطلق دول المنبع كميات مناسبة بالدرجة الأساس من تركيا ثم إيران ثم سوريا، لأن اكثر من 70 % من إيرادات المياه هي خارجية بالنسبة للعراق"، لافتاً إلى أن "كميات المياه المفقودة في الأهوار بلغت 40 % من مساحتها ويمكن استردادها حين عودة الإيرادات لمستواها الطبيعي".
وأشار إلى أن "العراق الآن لا يستلم غير أقل من 50 % من استحقاقه الطبيعي وهذا يؤثر على كل القطاعات المستهلكة، مع قيام وزارة الموارد المائية بإعطاء أولوية الكميات للشرب والمنزلية والبيئية والصحية ثم الزراعية ثم الاهوار المؤدية لشط العرب"، فيما أوضح أن "الأهوار تعتبر منظومة بيئية وإرث حضاري وجزء من هيبة العراق القديم والحديث".
عقوبات صدام حسين وما بعده
وشهدت الأهوار العراقية أول انتكاسة تاريخية قبل اكثر من ثلاثين عاماً، عندما قام رئيس النظام السابق حينها، صدام حسين، بتجفيفها، وذلك عقب الانتفاضة الشعبانية التي خرجت بعد حرب الخليج في العام 1991، حيث اتخذ قراراً بمطاردة المشاركين فيها ممن كانوا يتخذونها ملاذاً آمناً لهم من بطش النظام.
ونتيجة لذلك تحولت غالبية مساحة الأهوار إلى صحراء لتغادرها أعداد كبيرة من السكان نحو مناطق أخرى داخل البلاد أو خارجها، حتى سقط نظام صدام حسين في العام 2003 لتعود الحياة من جديد في الأهوار مع تدمير السدود والقنوات التي استخدمت لتجفيفها اصطناعياً.
تلى ذلك عودة المياه إلى الجريان في جميع الأهوار جنوبي العراق لتشهد رجوع السكان وحركة الزوارق للإبحار وسط الممرات المائية المحاطة بالقصب حتى عادت خلال السنوات الأخيرة لفترة الجفاف وانخفاض مناسيبها بفعل نقص الاطلاقات من دول المنبع وعدم وجود اتفاقيات تضمن حقوق دجلة والفرات في العراق.
ويشكل ملف المياه مصدر توتر بين العراق وتركيا، إذ بينما تقوم بغداد بمطالبة أنقرة بالإفراج عن مزيد من المياه، ترد الأخيرة في كل مرة بأن العراقيين يقومون بـ"هدر المياه".
ويواجه العراق أيضاً صعوبات في تأمين المياه للاحتياجات الزراعية واضطرت السلطات لذلك إلى خفض المساحات المزروعة بشكل كبير، فالأولوية هي تأمين المياه للشرب لسكان البلاد البالغ عددهم 42 مليون نسمة.
وفي مقابلة صحفية سابقة، أكد الرئيس العراقي، عبد اللطيف رشيد، أن الحكومة اتخذت "إجراءات هامة من أجل تحسين النظام المائي وإطلاق حوار مع الدول المجاورة"، دون كشف المزيد من التفاصيل.