قرر حسن (وهو اسم مستعار) الرحيل عن داره في مركز قضاء الإصلاح شرقي مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق)، بسبب تصاعد الصراعات العشائرية التي تنتهي في الغالب إلى تسجيل قتلى ومصابين، فضلاً عن الخسارات المادية.
يذهب النازحون من قتال القبائل في "الإصلاح"، بالعادة إلى قضاء الفهود المجاور (يبعد بضعة كيلومترات فقط). هناك تنتعش الحركة التجارية وتزدهر الأسواق بسبب الوضع الآمن أو الذي لا يشهد نزاعات عشائرية، كما في قضاء الإصلاح.
"أبو أسكندر"، صاحب مكتب بيع العقارات في قضاء الفهود، صار يقضي ساعات طويلة في مكتبه بعد زيادة طلبات شراء قطع الأراضي التي ارتفعت بشكل غير مسبوق.
"نبيع أرض سكنية كل ساعتين. إنه أمر لم يحدث سابقاً"، بحسب ما يقوله "أبو أسكندر لـ"جبال"، ويضيف :"كنا ننتظر أسبوعاً كاملاً لنبيع قطعة أرض واحدة أو إثنتين كحد أقصى".
قضاء الإصلاح الذي تتركز فيه اثنين من العشائر الكبيرة؛ الرميض وآل عمر، يشهد نزاعات عشائرية مستمرة لأسباب مختلفة، بعضها "غير مهمة"، وفق أبناء المدينة، حيث أن تعليقاً على "فيسبوك" قد يشعل أحياناً الصراع بين العشيرتين المتجاورتين، أو عبور مواشي أحد المزارعين بغير قصد إلى أرض مزارع آخر، أو حتى على فترات سقي الأراضي.
أطول نزاع عشائري
في "الإصلاح" يعيش نحو 50 ألف شخصاً، هم من الحضر والريفيين، وفي العام الماضي (2023) ضرب القضاء رقماً قياساً في أطول فترة نزاع عشائري، تطلب تدخل شخصيات مهمة بالدولة لمحاولة إيقافه.
واستمر النزاع نحو سنة كاملة، وبلغ عدد ضحاياه 6 قتلى من الطرفين وعدد من المصابين بطلق ناري.
ضربت القوات الأمنية هناك أطواق لفض الاشتباك، ولاحقت "مثيري الشغب" بين العشيرتين، لكن الإجراءات فشلت، وبالنهاية أرسل المرجع الأعلى بالنجف علي السيستاني وفداً لتنتهي المشكلة، ومن ثم تعود للاشتعال.
كان الصراع الأخير بين "الرميض" و"آل عمر" قد اندلع في آذار 2023 بسبب تعليق على "فيسبوك"، ولم ينتهي حتى أواخر العام.
اعتبر التعليق بانه إساءة إلى قائممقام القضاء، أحمد الرميض، دفع أبناء عشيرته للتوجه إلى منزل صاحب التعليق من العشيرة المقابلة، وأطلقوا النار كنوع من التحذير.
وفي صباح اليوم التالي، ردت عشيرة صاحب التعليق مستخدمة ذات الطريقة، وأطلقت الرصاص على منازل "آل رميض" المشتركين في حادث الأمس.
يقول أحمد العمري، أحد سكنة قضاء الإصلاح لـ"جبال"، إنّ "هذا النزاع لم يهدأ منذ تلك اللحظة وتفاقم الأمر بعد ذلك في نيسان من العام الماضي"
في ذلك الشهر تم استهداف ضابط بجهاز الأمن الوطني وهو من بيت شيخ عشيرة آل عمر. استقرت الرصاصات في صدره أثناء عودته إلى المنزل في القضاء.
اتهمت عشيرة الرميض بالحادث، وازداد الوضع سوءاً، ما دفع العشرات من الأهالي المنتمين للقبيلتين النزوح، أما لقضاء الفهود أو لمركز مدينة الناصرية.
ويمضي العمري قائلاً إنّ "الصدامات المسلحة استمرت، ولم تنته حتى تدخل وفد مرجعية النجف الذي انتزع من الطرفين مهلة للتوصل إلى حلول نهائية".
سيطرات وهمية.. وإضرام نيران بالمنازل
أحمد ناظم الرميض، قائممقام قضاء الإصلاح ذكر في بيان أصدره على خلفية تلك الحوادث، أن "التصعيد العشائري بين الأطراف المتنازعة تسبب بتهجير 114 عائلة من عشيرة الرميض وحرمان أكثر من 500 طالب وطالبة من الدراسة بسبب إغلاق المدارس".
وأشار المسؤول المحلي إلى أنّ "التصعيد بين القبيلتين في مركز القضاء أدى إلى ترهيب بعض العوائل داخل منازلهم، وإضرام النيران فيها".
مقابل ذلك رد جميل يوسف شيخ عشيرة آل عمر، في رسالة إلى رئيس الوزراء محمد السوداني، كشف فيها حدوث اعتداءات من أفراد عشيرة الرميض على عشيرته، استخدم فيها "الأسلحة الثقيلة والمتوسطة".
الشيخ يوسف قال في الرسالة التي نشرت على وسائل الإعلام، إن "سيطرات وهمية تم نصبها بالشوارع المؤدية إلى القضاء مما يعرض أفراد عشيرة آل عمر إلى الخطر، وعلى القوات الأمنية في حينها التدخل وفرض القانون".
رتب عسكرية تحت مرمى نيران العشائر
قضاء سيد دخيل، جنوبي الناصرية أيضاً، نال هو الآخر نصيبه من النزاعات العشائرية، تسببت بنزوح عشرات العوائل من سكنة المناطق الريفية.
يبلغ نفوس القضاء 65 ألفاً فيما نفوس السكن الريفي الذي دائماً ما تندلع فيه النزاعات المسلحة 48900 نسمة.
ووفق قائممقام سيد دخيل حيدر عزيز، فإن قرابة 20% من سكنة الريف نزحوا إلى أماكن أكثر أماناً خلال عامي 2022 و 2023 وعادة ما ينزحون إلى الأقضية القريبة منهم المستقرة.
وتظر وثيقة اطلعت عليها "جبال"، أن مدرسة الجيل الجديد الابتدائية المختلطة الواقعة في قرية البو حمودي بقضاء سيد دخيل، تم تعليق الدوام فيها أسبوع كامل وذلك "حفاظاً على سلامة التلاميذ والهيئة التعليمية من التعرض لأي حادث"، نتيجة وجود نزاع عشائري بين البو حمودي والهصاصرة، وهي عشيرة أخرى بالقضاء.
مصدر أمنى كشف لـ"جبال"، أنه "في 12 من تشرين الثاني 2023 سقط صاروخين نوع كاتيوشا عيار 106 ملم عند تلة ترابية قرب قرية الهصاصرة بقضاء سيد دخيل دون أن ينفجرا أو يوقعا الخسائر".
ووفق المصدر، فإنّ التقارير الأمنية تشير إلى أنّ "قواعد الإطلاق كانت من أحد الأماكن التي تتمركز فيها العشيرة المتخاصمة مع الهصاصرة" وهي البو حمودي.
وفي حوادث أخرى مشابهة جرت في الناصرية، تعرض في 9 تشرين الثاني 2023، منزل ضابط في وزارة الداخلية برتبة لواء بقضاء قلعة سكر شمال مدينة، إلى إطلاق نار أو ما يعرف عشائريا بـ"الدكة" نتيجة خلاف.
وفي نيسان 2022 قتل مدير استخبارات عمليات سومر العسكرية العميد علي جميل، عندما كان متواجداً بقضاء الشطرة شمال مدينة الناصرية لفض نزاع عشائري لتستقر رصاصة في جسده وفارق الحياة على الفور.
ويقدر عدد السلاح الموجود بيد المدنيين في العراق بنحو 15 مليون قطعة سلاح، بحسب إحصائيات وزارة الداخلية التي تقوم منذ أشهر في عملية تنظيم وإجازة الأسلحة غير المرخصة.
حسم أكثر من 157 نزاعاً عشائرياً العام الماضي
مدير شؤون العشائر في ذي قار، العقيد قاسم السعيدي، كشف في إحصائية أعداد النزاعات التي تم حسمها العام الماضي، حدوث نزاعين اثنين يومياً.
وبحسب السعيدي، فإنّ النزاعات بلغت العام الماضي أكثر من 157 نزاعاً عشائرياً، وبأنواعها المختلفة، سواء كانت باستخدام السلاح أو المشاجرة التي استدعت تدخل أطرافاً من العشائر الأخرى وعلى إثرها تم انتزاع "العطوة".
اللواء مكي الخيكاني قائد شرطة ذي قار تحدث لـ"جبال"، عن خططهم الأمنية للحد من هذه النزاعات عبر نشر قوة من الشرطة والأجهزة الساندة لها في مناطق التي يحصل فيها الاشتباك.
وإضافة إلى نصب السيطرات وتطويقها ومتابعة مثيري المشاكل والقبض عليهم ومصادرة الأسلحة التي يتم ضبطها وإحالتهم إلى قضاة التحقيق، مؤكداً: "نحن جادون بفرض هيبة القانون وحفظ أرواح المواطنين".
ويقول الخيكاني إنّ العديد من النزاعات تحدث "خلال الموسم الزراعي نتيجة الحصص المائية وسقي والأراضي".
المراهقون على خط خلاف العشائر
جاسم محمد شيخ عشيرة آل سهلان في الناصرية، يجد أن عدم تطويق الأزمة في البداية، وتدخل "المراهقين" يضاعف الصراعات العشائرية.
ويقول شيخ آل سهلان إن "تصرف المراهقين بشكل فردي في تلك المنازعات دون الرجوع إلى شيخ العشيرة أو ما دون ذلك (شيخ الفخذ) ينتهي في الغالب إلى تطور المشكلة، ويستخدم فيها السلاح الأبيض والناري".
أما نافع الشامي شيخ عشيرة البو شامة، فقد أوعز أسباب النزاعات إلى عدم تطبيق القانون بشكل حازم، وغياب الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأكد الشامي، أن "عدم تنفيذ أوامر قبض بحق مثيري الشغب وحصول العشائر على أسلحة غير مرخصة من النوع المتوسط والثقيل قد زادت من حدة النزاعات العشائرية".
وأشار أيضاً إلى "اندفاع بعض الشباب وعدم انصياعهم لقرارات شيخ العشيرة واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي للتعليق أو المساس بأفراد وشخصيات العشيرة المتنازع معها وهذا يتطلب وجود رقابة حكومية على مواقع التواصل"، بحسب الشامي.
في غضون ذلك يرى مدير مركز الجنوب للتخطيط الستراتيجي صلاح الموسوي، أنّ "المواجهات العشائرية المتواصلة في ذي قار أو بقية مدن العراق دلالة واضحة على ضعف تطبيق القانون من قبل الدولة وانتشار السلاح المنفلت".
يقول الموسوي إنّ "حمل السلاح من قبل العشائر يبين وبشكل واضح بوجود قوة مسلحة تنافس القوات الامنية فمن غير المعقول أن تمتلك أسلحة متوسطة وخفيفة".
وبين مدير مركز الجنوب أن "النزاع دائماً ما يقع بين العشائر نتيجة خلاف على أرض زراعية أو تعليق في مواقع التواصل الاجتماعي لا يستحق حتى الحديث عنه".
بعيداً عن مناطق الصراع
يقول "أبو أسكندر"، صاحب مكتب العقارات في قضاء الفهود، إن أسعار قطعة الأرض بلغت "75 مليون دينار لـ 250 متر مربع"، بعد أن كان سعرها يتراوح ما بين "30 إلى 35 مليون دينار".
ارتفاع أسعار القطع السكنية إلى الضعف في غضون الـ6 أشهر الماضية يعود لتوافد النازحين من مناطق صراع العشائر إلى "الفهود" التي تعتبر أكثر استقراراً من مناطق أخرى.
أما محمد صالح، صاحب محل لبيع المواد الغذائية في قضاء الفهود ، يقول إنّ "مبيعاته ارتفعت بشكل لافت"، وكاد هو الآخر لا يفارق محله، إلا لفترات استراحة قصيرة.
ويؤكد صالح لـ"الجبال"، "لم أشهد حركة تجارية في الأشهر الماضية مثلما يحدث هذه الأيام ".