حرب لم تنتهِ بعد في ذي قار.. قصص "الأبرياء" بين القنابل العنقودية ومساحات المقذوفات المليونية

8 قراءة دقيقة
حرب لم تنتهِ بعد في ذي قار.. قصص "الأبرياء" بين القنابل العنقودية ومساحات المقذوفات المليونية

كان كمال عدنان حين بلغ الثانية عشرة من عمره صبياً يرافق أغنامه بين مروج البادية الغربية التابعة لناحية "البطحاء" غرب محافظة ذي قار ككل موسم ربيع، كانت العائلة ترحل إلى تلك الأراضي التي تزدهر بخضرتها بحثاً عن مراعي خصبة لمواشيها، لكن ربيع عام 1992 حمل معه مأساة غيرت مجرى حياته للأبد.

 

كمال وهو الآن في العقد الرابع من عمره يروي تجربته لمنصة "الجبال" بينما يجلس في صالة منزله محاطاً بأطفاله الثلاثة ويده اليسرى المبتورة التي استبدلت بطرف صناعي تروي وحدها فصولاً من الألم والمعاناة، ففي ذلك العام صادف كمال جسماً معدنياً غريباً صغيراً صدئاً بفعل عوامل الزمن، بينما كان يرعى أغنامه وبدافع الفضول رفعه بين يديه ولكن في لحظة خاطفه انفجر الجسم وألقى به أرضاً وسط غبار كثيف وشظايا متناثرة.

 

يتذكر كمال كيف هرع أهله وأقاربه إلى مكان الحادث ليجدوا يده وقد تحولت إلى أشلاء متناثرة على الأرض ولم يكن الخوف من اللغم وحده ما سيطر عليهم، بل الذهول والحزن على الصبي الذي يصرخ من الألم.

 

نُقل كمال إلى المستشفى حيث خضع لعملية بتر كفه المصابة ليتتسيقظ يجد كفّه وجزءاً من ذراعه قد اختفيا وكانت هذه لحظة قاسية لا يمكن نسيانها، وهو يروي تلك اللحظات، أن فقدان جزءاً من يده جعله عاجزاً عن ممارسة حياته اليومية بالشكل المعهود، خاصة وهو ابن بيئة ريفية تعتمد على القوة البدنية في أعمال الرعي والزراعة.

 

 

وعلى الرغم من أنه حصل على تعويض شهري بعد عام 2003، إذ أن المبلغ الذي تسلمه له وزارة العمل والشؤون الاجتماعية يبلغ 250 ألف دينار، ولكنه لم يكن كافياً لتلبية احتياجات أسرته حتى لأيام معدودات. 

 

كمال ليس وحده في معاناته، بل الآف الضحايا في البادية الجنوبية شاركوه المصير، منهم من عاش بإعاقة دائمة ومنه من لقي حتفه، ومعظمهم من الرعاة أو المزارعين وأحياناً حتى السائحين الذين يتنقلون في تلك المناطق دون معرفة بخطر المخلفات الحربية. 

 

 

وتعد محافظة ذي قار واحدة من المدن الجنوبية التي سجلت أرقاماً مرعبة في عدد المساحات الملوثة بالمخلفات الحربية، نتيجة الحروب التي تعرضت لها المنطقة منذ حرب الخليج الأولى في عام 1991، وصولًا إلى احتلال العراق في عام 2003 وتُقدّر المساحات الملوثة في المحافظة بأكثر من 90 مليون متر مربع، حيث تنتشر المخلفات الحربية في مناطق شاسعة تقع في جنوب المحافظة، وهو ما يشكل تهديداً مستمراً على حياة المواطنين والبيئة المحلية.

 

مدير المركز الإقليمي الجنوبي التابع لوزارة البيئة، نبراس فاخر، قال لمنصة "الجبال" إن الحروب التي شهدتها المنطقة الجنوبية خلال عامي 1991 و2003 خلفت إرثاً ثقيلاً من المخلفات الحربية التي ما زالت تشكل تهديداً مستمراً على حياة السكان والبيئة وأن "المساحات الملوثة في محافظة ذي قار وحدها تقدر بحوالي 91 مليون متر مربع" محذراً من المخاطر الكبيرة التي تحملها هذه المخلفات.

 

 

وكانت وزارة البيئة قد أطلقت برنامجاً لأجل إحصاء المتضررين جراء المخلفات الحربية في عام 2012 حيث أظهرت آخر الإحصائيات أن عدد ضحايا هذه المخلفات بلغ 18 ألف شخص بين قتيل وجريح، في محافظات ذي قار، ميسان، البصرة، المثنى، وتعتبر القنابل العنقودية من أكثر أنواع المخلفات الحربية انتشاراً في ذي قار حيث تسببت في العديد من الحوادث المأساوية على مر السنين.

 

وفي هذا السياق، أكد فاخر أن هناك جهوداً متعددة تبذلها فرق الدفاع المدني، بالإضافة إلى الحشد الشعبي، لإزالة هذه المخلفات وقال إن جهداً يُبذل من قبل هذه الفرق لإزالة القنابل والذخائر غير المتفجرة من المناطق الملوثة حيث يتم العمل بجدية لتأمين حياة المواطنين.

 

 

كما لفت إلى دور المنظمات الإنسانية والدول المانحة في دعم هذه الجهود، مشيراً إلى أن المنظمة النرويجية قد افتتحت مقراً لها مؤخراً في ذي قار بهدف إجراء مسح شامل لتحديد حجم المناطق الملوثة وتقديم دراسة مفصلة للدول المانحة، ذلك من أجل زيادة عدد الكوادر العاملة في المنطقة وتكثيف الجهود المبذولة في إزالة المخلفات الحربية.

 

وبالتزامن مع هذه الجهود، أشار فاخر إلى تنسيق مستمر مع منظمة فرنسية متخصصة في إزالة المخلفات الحربية، حيث يعمل الطرفان على تطهير المواقع الأثرية في محافظة ذي قار التي يحتمل أن تحتوي على مخلفات حربية وتشكل تهديداً ليس فقط للحياة البشرية ولكن أيضاً للمستقبل السياحي في المنطقة.

 

من جانبه، أكد مدير بيئة ذي قار، موفق الطائي، في تصريح خاص لمنصة جبال، أن المساحات الملوثة بالمخلفات الحربية في المحافظة تشكل تهديداً بيئياً كبيراً، حيث تبيّن أن 52 مليون متر مربع من الأراضي الملوثة تحتوي على قنابل عنقودية بينما تتنوع المخلفات الحربية في باقي المناطق ولم يتم تسجيل أي نوع من الألغام الأرضية خلال عمليات المسح والإزالة التي أجرتها الجهات المختصة.

 

 

من جانبه، أوضح مدير مكتب الهلال الأحمر في ذي قار عامر الخفاجي أن غالبية المتضررين من هذه المخلفات هم من رعاة المواشي والمزارعين، حيث تعد مناطق البادية، التي تنتشر فيها المواشي، من أكثر المناطق تلوثاً بالمخلفات الحربية.

 

وفي السياق نفسه، كشف مدير الدفاع المدني في ذي قار العميد أحمد حسن عن قيام شعبة المعالجة بتطهير مساحة 13 مليون متر مربع من الرقعة الاستكشافية النفطية العاشرة، الواقعة جنوب المحافظة باتجاه "تل اللحم" وأن فرق الدفاع المدني نفذت أيضاً عمليات مسح لـ 28 مشروعاً في المنطقة شملت مجمعات سكنية للتأكد من خلوها من المخلفات الحربية، وتم رفع أكثر من 10 آلاف مقذوف حربي من مختلف المواقع الملوثة.

 

وقال مدير عام دائرة شؤون الألغام في وزارة البيئة، ظافر محمود، خلال تصريح صحفي أن عملية التطهير للأراضي في عموم الأراضي العراقية تمت بـ"بالتعاون مع وزارتي الداخلية والدفاع والتعاون الدولي تم تطهير 53% من المناطق الملوثة بالألغام" وأن "المساحة التي لم يتم تطهيرها إلى الآن تبلغ مليارين و700 مليون متر مربع، تشمل جميع محافظات العراق عدا إقليم كوردستان" وتم تسجيل أكثر من 34 ألف ضحية بين شهيد وجريح إلى الآن ومن المتوقع بعد إجراء مسوحات الضحايا أن تكون الحصيلة في تزايد وقد تصل الى ضعف هذه الأرقام".


وفي بيان لمنظمة اليونسيف، أشير إلى إحصائية بعدد الضحايا من الأطفال الذين أصيبوا جراء المخلفات الحربية في عام 2021 إذ بلغ عددهم 125 طفلاً "قتل من بينهم 52 طفلاً، وتعرض 73 طفلاً للإعاقة "حيث ارتفع عدد الضحايا من الأطفال بنسبة 67 % مقارنة بعام 2020".

 

 

وفي هذا المجال، أوضحت المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الاحمر، هبه عدنان، في تصريح صحفي أن " اللجنة الدولية تعمل على رفع الوعي بمخاطر الذخائر المتفجرة للأشخاص الأكثر تضرراً من وجود التلوث بالأسلحة للحد من تعرضهم للمخاطر ومساعدة الناس على فهم المخاطر التي تشكلها الأسلحة ففي العام 2023، تم دعم ما يقرب من 6000 شخص في المجتمعات المعرضة للخطر أو المتضررة من خلال جلسات التوعية المباشرة بالمخاطر والسلوك الآمن وبالإضافة إلى ذلك توفر اللجنة الدولية المواد اللازمة لضمان وضع العلامات المناسبة على المناطق الخطرة".

 

وأضافت "في العام 2023، تم تركيب 1200 علامة تحذيرية و35 لوحة إعلانية توعوية لرفع مستوى الوعي حول تلوث الأسلحة وممارسات السلوك الأكثر أمانًا".

 

والمركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، أصدر بياناً، بيّن مديره فاضل الغراوي، فيه أن عدد ضحايا المخلفات الحربية في العراق تجاوز الـ 34 ألف مواطن وأن المساحات المؤكدة لوجود ألغام فيها تصل إلى أكثر من 6000 كيلو متر في عموم محافظات العراق، لافتاً إلى مسح ورفع الألغام لـ 4000 كيلو متر منها من قبل وزارة البيئة مديرية شؤون الألغام، وهناك 2000 كيلو متر قيد المسح من غير المناطق غير المكتشفة. وان العديد من الأطفال فقدوا أطرافهم جراء انفجار الألغام الأرضية وما زال الآلاف من العراقيين ضمن الخطر المحدق. 

 

وتبقى المخلفات الحربية في محافظة ذي قار تمثل تهديداً بيئياً وإنسانياً مستمراً، مما يتطلب تعاوناً محلياً ودولياً مكثفاً لتطهير المناطق الملوثة وتوعية المواطنين بمخاطر هذه المخلفات. ومن الواضح أن الحاجة إلى الدعم الدولي وزيادة الجهود الوطنية في عمليات المسح والإزالة تبقى أمراً بالغ الأهمية للحد من الخطر الذي يواجهه السكان في هذه المنطقة المتضررة.

 

مرتضى الحدود صحفي عراقي

نُشرت في الاثنين 16 ديسمبر 2024 03:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.