كانت أول الدروس التي تعلمها وحرص عليها النظام السياسي الجديد بالعراق بعد 2003 - لتجنب مصير النظام السابق على الأقل - هو محاولات "التوازن" بالسياسية الخارجية والعلاقات الدولية، وموقفه من التوترات في العالم. جاء هذا التوجه مدفوعاً بعدم امتلاك النظام الجديد أيديولوجية أو فلسفة سياسية واضحة، ما جعل العراق بلا هوية واضحة في نظامه ودولته الجديدة، وأسفر هذا عن تحول العراق إلى "وسيط جيد" بين مختلف الأطراف المتنازعة وقريب وصديق للجميع.
إلا أن هذه الوساطات، والوسطية ولعبة التوازن على الحبل التي مارسها العراق، قادت هذه المرة إلى أن يكون طرفاً "رغماً عنه" ليكسب بذلك استعداء بعض الأطراف، وما جعل هذا الأمر أكثر صعوبة، عندما تكون هذه الأطراف ليست دولة معترف بها، بل مجاميع مسلحة تبحث عن الوجود وتحديد المصير، المصير الذي قد يكون العراق قد وضع نفسه حجر عثرة أمامه وحال بينه وبين طالبيه، والحديث هنا عن قوات سوريا الديمقراطية المعروفة بـ"قسد"، وليس بعيداً عن ذلك حزب العمال الكوردستاني أيضاً.
طوال سنوات الحرب على تنظيم "داعش" وما بعده من عمليات جهد استخباري، كان العراق يتبادل المعلومات الاستخبارية والنشاطات العسكرية مع "قسد"، وإن كان بشكل غير مباشر بل عن طريق وسيط متمثل بالقوات الأمريكية الداعمة لـقوات سوريا الديمقراطية، وعلى الجانب الآخر وطوال 40 عامًا، لم يتخذ العراق موقفاً مضاداً ضد حزب العمال الكردستاني المتواجد في مناطق اقليم كوردستان.
غير أن العراق، اتخذ مؤخرًا وبخطوات متسارعة، مواقف اصطفاف واضح لم يسبق أن اتخذها من قبل أو حاول "استعداء" أطراف أخرى، ليعلن ولأول مرة إن جماعة العمال الكوردستاني "حزب محظور"، ويسمح وينسق بعمليات مشتركة مع الجانب التركي لملاحقة مسلحي الحزب في المناطق الحدودية العراقية - التركية بمناطق إقليم كوردستان، وهي خطوة قد لا يتسامح معها ولا ينساها حزب العمال الذي سينظر إلى بغداد بأنها قد "مكّنت" الجانب التركي من ملاحقته.
وبشكل أقل من التحرك ضد حزب العمال، تقود بغداد أيَضاً تحركاً عابراً للحدود، قد تفضي نتائجه بشكل أو بآخر إلى الإضرار بقوات سوريا الديمقراطية، التي تحكم منطقة الإدارة الذاتية التي يمكن اعتبارها "دولة ثالثة في ضلع العراق بينه وبين سوريا" أو يمكن وصفه بـ"جار سابع"، فهذه "الدولة" تتقاسم مئات الكيلومترات أو قرابة نصف الحدود السورية العراقية، من معبر البوكمال جنوباً وحتى الحدود مع دهوك شمالًا.
وساطة تحوّل الوسيط إلى عدو
تقود بغداد "بحماس كبير" وساطة عاجلة بين أنقرة ودمشق، لإنهاء قطيعة دامت 13 عاماً بين البلدين، هذه الوساطة والتقارب التي يظهر رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، حماساً كبيراً تجاهها، فيها منافع لجميع الأطراف، غير أنها قد تحمل أضراراً أكبر للعراق، فبغداد تبني سلّم صعود العلاقات السورية- التركية، باستخدام الحجر الذي يتم تهديمه من منطقة الإدارة الذاتية، فالتقارب التركي السوري يمهد ربما للقضاء على منطقة نفوذ "قسد" أو قضم أجزاء منها، وملاحقة وقتل قوات سوريا الديمقراطية، أو حتى وحدات الحماية الشعبية المرتبطة بها، والتي تتهمها أنقرة بأنها امتداد لحزب العمال الكوردستاني.
تهدف تركيا من هذا التقارب مع سوريا، إلى التخلص من المسلحين على حدودها مع سوريا، بالمقابل، قد تجني حكومة بشار الأسد، الرئيس السوري، سلطة على أراضٍ كانت خارج سيطرتها منذ سنوات، وتحديداً تلك التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال وشمال شرق سوريا، أو المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة الأخرى المتمثل بالجيش الوطني السوري المعارض، والمدعوم من تركيا في مناطق شمال غربي سوريا .
وبالفعل، قادت تحركات الوساطة السورية- التركية، إلى اندلاع احتجاجات كبيرة في مناطق شمال غرب سوريا التي يسيطر عليها "الجيش الوطني السوري المعارض" المدعوم من تركيا، حيث رفض السكان هناك قيام أنقرة بالتصالح مع نظام الأسد، ورفض عودة أراضيهم ليتم حكمها من قبل الرئيس السوري.
أما على الجانب الشمالي الشرقي لسوريا، والمشترك بحدود واسعة مع العراق، ما يزال موقف "قسد" والجانب الأميركي الداعم له، غير واضح تجاه التحرك العراقي ومساعدة أنقرة على الدخول إلى هذه المناطق بالتنسيق مع نظام الأسد.
العراق "يستعدي" جاره الجديد
إلا أن مراقبين يرون أن التحرك العراقي في هذه الوساطة، قد يورطه مع "قسد" بشكل أو بآخر، وماهي إلا أيام حتى أعلنت "قسد" عن عفو عام "غير مسبوق" سيشمل أكثر من 1500 شخص، من بينهم أعداد كبيرة من المتهمين بالإرهاب وفق ما يؤكد المرصد السوري لحقوق الإنسان وغيره من المنظمات والمصادر الأخرى، بالرغم من إعلان حكومة الإدارة الذاتية و"قسد" أن العفو يشمل فقط من لم تتلطخ يده بالدماء.
وتطرح تساؤلات عما إذا كانت خطوة "قسد" الأخيرة، هي رد مبكّر على العراق "انتقاماً" من موقفه وتحركه المضاد لقوات "قسد"، وإن كان هذا الرد بشكل غير مباشر، أي أنه على الأقل جاء مدفوعاً بتصحيح أوضاع "قسد" في المناطق التي تسيطر عليها وكسب المصالحة مع العشائر العربية والكوردية وجميع العشائر والأطراف الأخرى التي تعيش تحت سلطة حكم الإدارة الذاتية، استعداداً لما قد تحمله المصالحة التركية السورية من مفاجآت وعمليات عسكرية تستهدف مناطق الإدارة الذاتية التي تحكمها "قسد"، والتي تمتد حدودها من معبر البوكمال وصولا إلى الحدود مع دهوك، ما يعني أنها تجاور شمال الأنبار ومحافظة نينوى بالكامل.
*خارطة سيطرة "قسد" في حكم الادارة الذاتية باللون الأصفر
تعد هذه المنطقة الحدودية الواسعة المجاورة للعراق لتكون بمثابة "دولة مجاورة جديدة"، خطر كبير في خاصرة العراق، خصوصاً وأنها تضم عشرات مراكز الاعتقال، التي تضم عشرات الآلاف من المعتقلين من " الدواعش" وغيرهم، حتى أن منطقة الإدارة الذاتية هذه وصفت بأنها "أكبر تجمع للإرهابيين في العالم"، بحسب وصف المحللة الأميركية كالي روبنسون المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فضلًا عن ذلك تشهد هذه المنطقة محاولات هروب مستمرة لقادة "داعش"، وعدد كبير من هذه المحاولات تنتهي بالنجاح فعلًا، ووسط كل هذا، يساعد العراق كلا من أنقرة ودمشق على "تفكيك" هذه "القنبلة".
ماذا يريد العراق من التقارب التركي السوري؟
بينما تستهدف تركيا تأمين شريط حدودي آمن على عمق 40 كيلومتر في الداخل العراق والسوري أيضاً وجعله "منزوعاً" من المسلحين الكورد، قد تستفيد سوريا من إعادة السيطرة على أجزاء جديدة من البلد الذي تحكم دمشق نصفه فقط، ووسط هذا تطرح تساؤلات عن "ماذا يريد العراق من هذه الوساطة وما الفائدة المتوقعة مقابل الأضرار المحتملة؟".
يريد العراق ربما تأمين كافة حدوده الشمالية الغربية لتكون بالكامل تحت سيطرة نظام الأسد، وإمكانية التواصل معها كدولة، خصوصاً وأن العراق لديه مشاريع عديدة ربما إحياء أنبوب نقل النفط عبر ميناء بانياس السوري، كما أن تأمين هذه المنطقة بالكامل كما تريد أنقرة، قد يستهدف العراق منها الحصول على مكاسب إضافية من تركيا كالمياه أو الأمن في شمال العراق.
بالمقابل، تبدو إيران "سعيدة" بهذا التقارب، فإعادة سيطرة حكومة الأسد على مناطق جديدة في الحدود مع العراق والتخلص من قوات قسد المدعومة أميركياً ربما يفتح مساراً أوسع للتنقل الايراني تجاه سوريا عبر العراق وهو سبب إضافي قد يجعل العراق متحمساً لهذه الوساطة.
*نشاط داعش في العراق وسوريا.. قفزة بنسبة 150%
تأتي هذه التحركات بالضد من "قسد"، والتطور الاخير للعفو العام الذي أصدرته "ٌقسد" عن أكثر من 1500 معتقل، تأتي في الوقت الذي تحذر القوات الأميركية من تصاعد نشاطات "داعش"، وأن التنظيم يتجه نحو "مضاعفة" عملياته خلال هذه العام مقارنة بالعام الماضي.
القيادة المركزية للجيش الأميركي قالت في تقريرها نصف السنوي عن النصف الأول من العام الجاري 2024، إن عدد هجمات تنظيم في سوريا والعراق بطريقه إلى التضاعف مقارنة بالعام الماضي، حيث تبنى التنظيم 153 عملية في العراق وسوريا خلال الاشهر الستة الاولى من العام الجاري، بالمقابل كشفت تقارير امريكية أن اجمالي هجمات عام 2023 بالكامل بلغت 121 هجوما في العراق وسوريا.
ما يعني ان الهجمات خلال نصف العام الجاري، اكبر من عدد الهجمات خلال العام الماضي بالكامل، فوفقا لعدد الهجمات للنصف الاول من العام الجاري، فهذا يعني ان معدل الهجمات يبلغ اكثر من 25 هجمة شهريًا، مقابل 10 هجمات شهريًا في العام الماضي 2023، اي ان وتيرة هجمات داعش ارتفعت بنسبة 150%.
وفقًا لمعهد واشنطن، فإنه بين اذار 2023 واذار 2024، شن تنظيم "داعش"، 1121 عملية في العالم، من بينها 774 عملية في العراق وسوريا، وهذا الرقم جاء منخفضا عن الفترة اذار 2022 الى اذار 2023 والتي شهدت 1812 عملية من بينها 1143 عملية في العراق وسوريا.
هجمات "داعش" من 2019 إلى 2024
في قراءة على هذه الارقام وبالعودة الى 2019 وحتى الان، كانت نسبة العمليات التي نفذها "داعش" في العراق وسوريا من اجمالي عملياته في العالم تحوم حول 35%، اما في 2022-2023 بلغت العمليات في العراق وسوريا 63% من اجمالي العمليات، لكنها في 2023-2024، كانت حوالي 70% من العمليات في العراق وسوريا، وهو تطور واضح عن مدى عودة وتزايد نشاط داعش في العراق وسوريا مقارنة بالسنوات القليلة السابقة.