من قلب الساحات التي صدحت بشعار "نريد وطن" إلى قاعات البرلمان واجتماعات الأحزاب التقليدية، تتكشف اليوم مفارقة لافتة في المشهد السياسي العراقي، إذ أنه وبعد 6 سنوات على احتجاجات تشرين التي "أعادت رسم الوعي الجمعي وأربكت المنظومة الحاكمة" كما يصفها المدافعون عنها، يتجه بعض من خرجوا منها، نحو التحالف مع القوى التقليدية ذاتها التي كانت هدفاً لغضب شعبي واسع في خريف العام 2019.
انتقالٌ بدا للبعض تحولًا سياسياً مشروعاً، ولآخرين تراجعاً عن مبادئ "الانتفاضة" واندماجاً تدريجياً في بنية السلطة التي وُلدت تشرين لمواجهتها.
وحاولت منصة "الجبال"، تفكيك هذه المفارقة عبر تتبع خطى عدد من النواب المنبثقين من رحم الاحتجاجات، ممن غيّروا وجهتهم السياسية بشكل مثير للجدل، ومنهم من ذهب مع ائتلاف الإعمار والتنمية برئاسة محمد شياع السوداني، وأبرزهم نور نافع وضياء الهندي وفاتن القره غولي وحميد الشبلاوي وصائب الحجامي وفلاح الهلالي، بينما أنضم آخرون إلى ائتلاف الأساس برئاسة محسن المندلاوي ومنهم داود العيدان ومحمد نوري الخزاعي، أما نيسان الزاير وفاطمة العيساوي فقد ذهبن باتجاه ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، في حين سار كاظم الفياض صوب تحالف قوى الدولة الوطنية برئاسة عمار الحكيم، كما أن أغلب من ورد اسمه رفض التصريح بينما الجزء الآخر لم يرد على الاتصالات أو رد بأجوبة مقتضبة.
نواب تشرين "يرفضون التبرير"
النائب نيسان الزاير التي فازت بانتخابات 2021 عن محافظة ذي قار ضمن حركة امتداد التشرينية المنبثقة من ساحة الحبوبي واشتهرت بحراكها الفعال ضد السلطة، رشحت في انتخابات 2025 ضمن ائتلاف دولة القانون، وأبدت امتعضاها عند سؤالها عن الانتقال من حزب منبثق من احتجاجات تشرين إلى حزب تقليدي.
وقالت الزاير في حديث لمنصة "الجبال"، إن "كل سياسي لديه رؤية، ولا حاجة للتبرير لماذا ذهبت هنا أو هناك"، مستدركة بالقول: "أنا أحدد السبيل لتحقيق طموح جمهوري".
وطرحت النائب عن محافظة ذي قار رؤيتها قائلة إن "السياسي هو من يحدد الوجهة الأصلح لتحقيق الطموح للمجتمع".
يذكر أن نيسان الزاير تمكنت خلال انتخابات 2021 من حصد 26899 صوتاً، ليكون تسلسلها الثاني من بين النساء المترشحات في العراق، فيما حلّت سروة عبد الواحد في المركز الأول لجهة عدد الأصوات.
الزاير وقعت آنذاك وثيقة شرف ضمن كتلة امتداد والتي تضمنت السعي الجاد لمحاكمة قتلة المتظاهرين السلميين وممارسة دورها الرقابي والعمل على كشف جميع ملفات الفساد في مفاصل الدولة وتعديل الدستور والسعي إلى تغيير نظام الحكم من برلماني إلى "شبه رئاسي"، والتعهد بعدم المطالبة بأي رواتب تقاعدية في نهاية الدورة النيابية وعدم استلام أي مبالغ تحت عنوان تحسين المعيشة والسعي لتشريع قوانين تلقي جميع الرواتب التقاعدية والامتيازات لمجلس النواب والرئاسات الثلاث.
"لا صفقات مع الأحزاب التقليدية"
من جهته، يقول مشرق الفريجي وهو الأمين العام لحركة نازل آخذ حقي المنبثقة عن احتجاجات تشرين 2019، ورشح مؤخراً ضمن ائتلاف الإعمار والتنمية الذي يترأسه محمد شياع السوداني،
ويقول الفريجي في حديث لمنصة "الجبال": "نحن لم نلجأ إلى نفس المنظومة الحاكمة وإنما تحالفنا مع حزب تاريخه السياسي ليس بالطويل".
وأضاف أن "تيار الفراتين الذي كان يتزعمه محمد شياع السوداني لم يتعدى الـ8 سنوات، ومواقفه مع تظاهرات تشرين لم تكن سلبية بل على العكس كان داعماً لها".
وأشار الأمين العام لحركة نازل آخذ حقي إلى أن "تحالفنا مع ائتلاف الإعمار والتنمية كان بصفة التحالف، تحالف دولة، وخطابنا واحد، هو رفض المحاصصة وتغيير الواقع ورفض السلاح المنفلت"، مبيناً أن "السوداني كشف نتائج أحداث مديرية الزراعة وسمى الجهات بتسمياتها وهذه لأول مرة تحدث في العراق".
الفريجي أكد عدم وجود صفقة سياسية بتحالفهم مع ائتلاف الإعمار والتنمية، مشيراً إلى أن "قوانين الانتخابات في العراق تجعلنا في بعض الأحيان نبحث عن تحالفات قابلة للفوز".
وتتشابه حركة "نازل آخذ حقي" مع ائتلاف الإعمار والتنمية، وفق الفريجي، في "تغيير اللاءات الثلاث ورفض الفساد والمحاصصة والسلاح المنفلت".
ولفت الأمين العام لحركة "نازل آخذ حقي" إلى أن "حركته لم تكن تتهم السوداني أو تياره السابق تيار الفراتين وإنما كنا نتهم أطراف كبيرة في الإطار التنسيقي".
وبرّر الفريجي وجود أطرف من الإطار ضمن تحالف الإعمار والتنمية بأن "وجودهم لا يعني تحالف حركة نازل آخذ حقي بشكل مباشر معهم"، مؤكداً أن "حركة نازل آخذ حقي لديها الحرية الكاملة باتخاذ قراراتها في داخل الائتلاف وخارج الائتلاف ولا يستطيع أحد أن يملي عليهم قرار".
ونوه الفريجي إلى أن "حركته ما تزال تدعم جميع التظاهرات المطلبية، مستدركاً بالقول: "نحن لم نخرج عن المبادئ والقيم ولم يتم شرائنا ومن يطرح هذه الأساليب هم المتحالفون مع قوى السلطة
"من وصلوا للبرلمان ليسوا بممثلي تشرين"
من جانبه، يرى الباحث في الشأن السياسي مجاشع التميمي، أن "من أنضم للأحزاب التقليدية من التشرينيين لم يكونوا في الأصل ممثلين حقيقيين لتشرين، بل ركّاب موجة".
ويقول التميمي في حديث لمنصة "الجبال"، إن "التحول الذي شهدناه من قبل عدد من النواب المستقلين والتشرينيين نحو الأحزاب التقليدية لا يعكس براغماتية سياسية بقدر ما يؤكد أنهم لم يكونوا في الأصل ممثلين حقيقيين لتشرين، بل ركّاب موجة استثمروا الغضب الشعبي للوصول إلى البرلمان".
وأضاف الأكاديمي أن "الاستقلالية كانت عند أغلبهم شعاراً انتخابياً مؤقتاً سرعان ما انهار أمام مغريات السلطة ومنافعها".
وأشار التميمي إلى أن "ما حدث ألحق ضرراً معنوياً بصورة حراك تشرين، لكنه لم يُنهِ روحه ولا مطالبه، لأن من خانوا المبادئ لم يكونوا من صناعها أصلاً".
ولفت إلى أن "السلطة نجحت جزئياً في احتواء بعض الوجوه، لكنّ جوهر تشرين الشعبي بقي خارج حسابات المنظومة الحزبية، وسيظل يمثل الوعي الرافض للفساد والمحاصصة، مهما حاولت القوى التقليدية توظيف رموزه لتلميع صورتها".
(حركة امتداد وهي تدخل البرلمان عبر عربة التك توك بعد انتخابات 2021)