تشهد المحافظات الجنوبية الثلاث ذي قار وميسان والمثنى حراكاً انتخابياً لافتاً رغم قرار التيار الصدري بمقاطعة انتخابات 2025، في مشهدٍ يبدو للوهلة الأولى أنه سيخلّف فراغاً سياسياً واسعاً، لكنه في الواقع أعاد رسم خارطة التنافس بين الكتل التقليدية والناشئة.
ومنذ انطلاق الدعاية الانتخابية تزايدت اللقاءات الجماهيرية والندوات الحزبية في محاولة من القوى الشيعية التقليدية مثل: ائتلاف دولة القانون، تحالف صادقون، منظمة بدر، وقائمة الإعمار والتنمية لتعويض الغياب الصدري واستقطاب قاعدته الشعبية في معاقلها السابقة.
ووفق المعطيات الانتخابية فإن خريطة المقاعد للمحافظات الجنوبية متفاوتة، وبحسب التعداد السكاني لها فان عدد المقاعد البرلمانية لمحافظة ذي قار 19 مقعداً منها 5 للنساء وميسان 10 مقاعد منها 3 للنساء والمثنى 7 مقاعد منها 2 للنساء.
وعلى الرغم من المقاطعة الصدرية، فإن المؤشرات الميدانية في ذي قار وميسان والمثنى تُظهر ارتفاعاً نسبياً في نسبة المشاركة المتوقعة مقارنة بانتخابات 2021، إذ تسعى القوائم المنافسة لاستثمار الغياب الصدري بتكثيف النشاطات الاجتماعية والزيارات الميدانية للمناطق الريفية والعشائرية.
أحمد الموسوي رئيس الجمعية السياسية في ذي قار، يرى أن "قرار التيار الصدري بعدم المشاركة ستكون له تداعيات سياسية باعتباره غائباً عن المشهد السياسي، وهو عنصر مهم في هذه المعادلة، لكن النظام الانتخابي لا يتأثر عاطفياً بل يتعامل مع الأرقام، بالتالي لن يشكّل انسحاب التيار فراغاً مؤسسياً كبيراً لأن الأحزاب الأخرى دفعت بمرشحين جاهزين لشغل الفراغ المحتمل".
وقال الموسوي في حديث لمنصة "الجبال"، إن "التجربة البرلمانية السابقة أثبتت أن النظام سمح بصعود مرشحين من كتل أخرى بعد انسحاب النواب الصدريين، لكنه يلفت في الوقت ذاته إلى أن غياب التيار الصدري قد يعقّد مشهد اختيار رئيس الوزراء المقبل نظراً لغياب أحد الأقطاب الموازنة في التوافقات الشيعية، ما يعيدنا إلى سيناريو الانسداد السياسي الذي عاشه العراق بعد انتخابات 2021".
من جانبه، يرى الباحث في العلوم السياسية، غسان محمد، أن "الانتخابات المقبلة تمثّل اختباراً جديداً للنضج الديمقراطي في العراق"، مشيراً إلى أن "المشكلة لا تكمن فقط في مقاطعة تيار أو مشاركة آخر، بل في فقدان الثقة بين الجمهور والأحزاب".
ويقول محمد إن "الأزمة الحقيقية هي أن المواطن ما زال يجهل طبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية، وهذا ما يجعل الخطاب الانتخابي لدى معظم الأحزاب منخفضاً إلى مستوى الوعود الشعبية بدل البرامج الواقعية".
ويضيف الباحث السياسي أن "التيار الصدري اختار المقاطعة كقرار سياسي داخلي، لكنه خسر فرصة لتشكيل معارضة منظمة داخل البرلمان فيما تبدو الأحزاب التقليدية كدولة القانون وبدر وصادقون في موقع أكثر تماسكاً بفضل جمهورها الثابت في المدن الجنوبية على عكس القوى المدنية والناشئة التي لم تتمكن بعد من تثبيت قاعدة انتخابية مؤثرة.
ويعتبر مدير مركز الجنوب للدراسات، صلاح الموسوي، في حديث لمنصة "الجبال"، أن مقاطعة التيار الصدري للانتخابات البرلمانية المقبلة فتحت الباب واسعاً أمام القوى الأخرى في المدن الجنوبية باعتبارها معقل الشيعة لتعزيز حضورها السياسي مؤكداً أن "المنافس الأقوى الذي كان يشكّل ثقلاً انتخابياً كبيراً انسحب من الساحة مما أتاح للأحزاب التقليدية والفاعلة ميدانياً فرصة أكبر لترسيخ نفوذها في المحافظات الجنوبية".
وأوضح الموسوي أن "المشهد الانتخابي اليوم يتمحور حول قائمتين بارزتين هما قائمة الإعمار والتنمية بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، التي تستفيد من قوة الأداء الحكومي وقدرتها على التحرك الميداني وكتلة صادقون التي زاد نفوذها خلال السنوات الأربع الماضية"، مبيناً أن "هاتين القوتين تشكلان اليوم أكبر منافس لائتلاف دولة القانون ومنظمة بدر وبقية الأحزاب الشيعية التقليدية".
وأشار الموسوي في تحليله إلى أن "قوة السوداني السياسية تنبع من عاملين رئيسيين هما: أولاً، امتلاكه أدوات السلطة التنفيذية التي تمنحه حضوراً ملموساً في ملفات الخدمات والاقتصاد والأمن. وثانياً، تراجع التأثير الإيراني النسبي في القرار السياسي العراقي بعد تداعيات الحرب الإسرائيلية–الفلسطينية (طوفان الأقصى) وما تبعها من انشغال طهران في ملفاتها الإقليمية".
ويرى الموسوي أن "هذا المناخ الجديد أتاح للسوداني هامش حركة أوسع واستقلالية أكبر في إدارة الدولة، مدعوماً بتشجيع عربي وغربي متزايد يراه البعض بداية لمرحلة توازن سياسي جديد في العراق، تتقاطع فيها الواقعية التنموية مع الانفتاح الإقليمي".
في السياق، كشف مركز البيان للدراسات والتخطيط أحدث استطلاع أجراه حول الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2025 اظهر فيه مؤشرات جديدة تتعلق بنسبة المشاركة المتوقعة وعدد المرشحين في المحافظات الجنوبية الثلاث ذي قار وميسان والمثنى إضافة إلى خريطة لتوزيع الأصوات المتوقعة بين الأحزاب والتحالفات التقليدية والناشئة.
وبلغ عدد المرشحين الكلي في المحافظات الثلاث 837 مرشحاً بينهم 227 امرأة، توزّعوا بواقع 141 مرشحاً في ميسان بينهم 37 امرأة، و570 مرشحاً في ذي قار بينهم 154 امرأة، و126 مرشحاً في المثنى بينهم 36 امرأة.
وبحسب استطلاع مركز البيان أظهرت النتائج أن في محافظة ميسان ستة أحزاب وتحالفات تقليدية حصلت على تأييد يقارب 73% من إجمالي العينة الانتخابية. وجاء في الصدارة تحالف الاعمار والتنمية بنسبة 22% تلاه منظمة بدر بنسبة 9% ثم قوى الدولة الوطنية وتحالف أبشر يا عراق بنسبة متقاربة بلغت نحو 6% لكل منهما.
ووفق التقديرات، يُرجّح أن تحصد قائمة الاعمار والتنمية بين مقعدين إلى ثلاثة من أصل عشرة مخصصة للمحافظة، مقابل مقعد أو مقعدين لمنظمة بدر، فيما تتوزع المقاعد المتبقية بين قوى الدولة الوطنية وأبشر يا عراق وصادقون وتحالفات محلية أخرى.
في محافظة ذي قار التي تُعدّ إحدى الساحات الانتخابية الأكثر سخونة كشف الاستطلاع عن أن خمسة أحزاب وتحالفات سياسية تقليدية حصلت على نسبة 69% من مجموع العينات التي تم استطلاعها وأظهرت تفوّق واضح لتحالف الاعمار والتنمية بنسبة 28% يليه ائتلاف دولة القانون بنسبة 15% ثم قوى الدولة الوطنية ومنظمة بدر بنسبة متقاربة بلغت 9% لكل منهما، تليها كتلة صادقون بنسبة 8%.
وبناء على هذه النسب، يتوقع أن تحصد القوى التقليدية نحو 13 إلى 14 مقعداً من أصل 19 مقعداً برلمانياً مخصصة للمحافظة، بينها 5 إلى 6 مقاعد لتحالف الاعمار والتنمية و2 إلى 3 مقاعد لدولة القانون فيما تتقاسم بقية الكتل ومنها صادقون وبدر وقوى الدولة الوطنية وأشر يا عراق والعمق الوطني وخدمات وائتلاف الأساس مقعداً واحداً لكل منها تقريباً.
أما في محافظة المثنى، فقد أظهرت النتائج ميولاً أقل حماساً لدى الناخبين، حيث عبّر 55% من المستطلَعين عن نيتهم التصويت لصالح خمس قوى وتحالفات رئيسية فقط. وحلّ ائتلاف دولة القانون في الصدارة بنسبة 25% يليه تحالف الاعمار والتنمية بنسبة 17% ثم صادقون بنسبة 8% بينما حصل ائتلاف الأساس على 3% وقوى الدولة الوطنية على 2%.
وبناءً على هذه الأرقام من المتوقع أن تحصد دولة القانون ما بين مقعدين إلى ثلاثة مقابل مقعد أو مقعدين لتحالف الاعمار والتنمية فيما يُرجّح حصول صادقون على مقعد واحد وتتنافس التحالفات الأخرى على مقعد متبقي واحد فقط.
تبدو ساحات الجنوب بمثابة مكان للتحوّل، إذ تنطلق فيها الانتخابات نحو صراع بين الواقعية التنموية كما تمثلها قائمة الإعمار والتنمية وبين الخطاب التقليدي للأحزاب التي اعتادت الانتقال عبر الولاءات التاريخية.
وان القائمة بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تستفيد من امتلاك أدوات السلطة التنفيذية والحركة الميدانية ما يمنحها تقدماً في ملفات الخدمات والبنى التحتية في وقت تُراجع فيه القوى التقليدية نفسها لإعادة تجميع قواعدها.
لكن التحدي الأكبر يبقى في تحويل هذه المنافسة إلى ثقة شعبية خصوصاً وان ارتفاع المشاركة ليس مضموناً إذا لم تُقدّم الحملة الانتخابية برنامجاً مفهوماً للمواطن، وليس مجرد وعود عامة.
لذا يحتمل أن تؤدي انتخابات الجنوب إلى مفترق طرق للسياسات العراقية إذا نجحت القوى التنموية في حصد مقاعد مؤثرة، فقد يُفتح طريق جديد لإعادة الترتيب والتواصل بين السلطة والشعب، وقد تؤثّر في بناء الحكومة التالية خصوصاً أن النظام الانتخابي حسب التحليلات لا يُفرز فائزاً مباشرة بل ُيركّب
حبر انتخابي/ أرشيفية