خاص| إنفاق أكثر من 11 تريليون دينار على الحملات الدعائية.. هل تتحول الانتخابات إلى لعبة لاستعراض المال فقط؟

خاص| إنفاق أكثر من 11 تريليون دينار على الحملات الدعائية.. هل تتحول الانتخابات إلى لعبة لاستعراض المال فقط؟ حملة انتخابية في العراق عام 2021

في كل دورة انتخابية، يتحول المشهد السياسي العراقي إلى ساحة ضخمة للدعاية، حيث تُصرف أموال هائلة تتجاوز السقف القانوني المقرر بأضعاف، دون وجود رقابة مالية حقيقية أو نظام تدقيق يلزم المرشحين بالكشف عن مصادر تمويلهم. هذا الانفلات جعل العراق واحداً من أكثر الدول إنفاقاً على الحملات الدعائية مقارنة بعدد المرشحين والدخل القومي، وأضعف الأنظمة في ضبط المال السياسي أو تتبع مساره بعد انتهاء الانتخابات.

 

"إنفاق يصدم العقل"

 

وبحسب مقاربات سياسيين وتقارير رسمية وتصريحات لمسؤولين، يبلغ متوسط الإنفاق الدعائي للمرشح العراقي نحو مليار و400 مليون دينار، فيما تشير تقديرات ميدانية إلى أن بعض المرشحين أنفقوا ما بين 3 إلى 5 مليارات دينار للحملة الواحدة.

 

ومع وجود 7,926 مرشحاً في الانتخابات، تُظهر المعادلة الحسابية الفجوة الحقيقية بين النص القانوني والواقع الفعلي: 1,400,000,000 × 7,926 = 11,096,400,000,000 دينار، أي ما يعادل نحو 8.4 مليارات دولار وفق سعر صرف 1,320 ديناراً للدولار الواحد. هذا الحجم من الإنفاق يجعل العملية الانتخابية واحدة من أكثر الأنشطة الاقتصادية كلفة في البلاد، متقدمة على قطاعات خدمية كاملة مثل الإسكان أو التعليم أو الإعمار.

 

وإذا ما حوّلنا الأموال المصروفة على الدعاية الانتخابية إلى مشاريع خدمية، فإن المليارات العراقية يمكن أن تغطي بناء 110 آلاف وحدة سكنية اقتصادية بافتراض كلفة 100 مليون دينار لكل وحدة، أو إنشاء 1,860 مدرسة ابتدائية قياسية بمتوسط كلفة 6 مليارات دينار للمدرسة الواحدة، أو تجهيز 92 مستشفى متوسط السعة (150 سريراً) بمتوسط كلفة 120 مليار دينار لكل مستشفى، أو إنشاء 8,400 كيلومتر من الطرق الحضرية بمتوسط كلفة 1.3 مليار دينار لكل كيلومتر. هذه المقارنة الحسابية لا تهدف إلى التبسيط، بل لتسليط الضوء على الفجوة بين الموارد المتاحة في الواقع الانتخابي وبين عجز الدولة عن تمويل قطاعاتها الأساسية، وهو ما يوضح أن ما يُنفق على صور وشعارات يمكن أن يُستخدم لبناء مدارس ومستشفيات ومساكن يستفيد منها ملايين المواطنين.

 

الفجوة بين العراق والدول الأخرى

 

مراجعات نظم التمويل الانتخابي في عدد من الدول تشير إلى أن العراق يقع في أقصى طرف معادلة الإنفاق مقابل الرقابة، ففي المملكة المتحدة، يحدد القانون سقفاً واضحاً لإنفاق المرشح بنحو 20 ألف جنيه إسترليني، مع إلزامه بتقديم كشف مفصل عن مصادر التمويل.

 

وفي فرنسا، لا يُسمح للمرشحين الرئاسيين بتجاوز 22.5 مليون يورو في الجولة الثانية، وتخضع جميع المصاريف لتدقيق قضائي مستقل، وفي المقابل، لا توجد في العراق جهة رقابية فاعلة ولا نظام إفصاح مالي إلزامي، رغم وجود السقف القانوني البالغ 250 ديناراً لكل ناخب، هذا الوضع يجعل العراق الأعلى في حجم الإنفاق والأضعف في الرقابة المالية مقارنة بالدول الديمقراطية التي تعتمد الشفافية كأساس لنزاهة العملية الانتخابية.

 

إلى ذلك، أصبح التمويل الانتخابي في العراق مرآة دقيقة لطبيعة النظام السياسي، فالقانون موجود، لكن التنفيذ غائب، والرقابة شكلية، والمال السياسي بات المحرك الفعلي للعملية الديمقراطية.

 

وبهذا الصدد، يرى مراقبون أن استمرار هذا الواقع سيُعمّق أزمة الثقة بين الناخب والدولة، لأن المواطن يدرك أن الأصوات لا تُترجم إلى تمثيل حقيقي، بل إلى مكاسب تُقاس بحجم الإنفاق الانتخابي.

 

ويؤكد خبراء الحوكمة أن غياب الشفافية في تمويل الحملات سيُبقي الانتخابات القادمة أسيرة لرأس المال السياسي ويمنع أي إصلاح حقيقي في بنية الدولة، فكل دورة انتخابية تُعيد إنتاج الحلقة ذاتها: المال يصنع النفوذ، والنفوذ يعيد إنتاج المال، فيما يبقى النظام القانوني عاجزاً عن ضبط العلاقة بين السلطة والتمويل.

 

في المحصلة، 11 تريليون دينار ليست مجرد إنفاق انتخابي، بل مؤشر على حجم التشوه المالي في التجربة الديمقراطية العراقية، حيث تتقدم الأموال على البرامج، وتُختزل السياسة في قدرتها على الدفع لا في قدرتها على الإصلاح.

 

سقوف الإنفاق الانتخابي: من بغداد إلى المثنى

 

وفق تعليمات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فإن سقف الإنفاق لكل مرشح على الدعاية الانتخابية بمختلف أشكالها يبلغ 250 ديناراً مقابل كل ناخب في الدائرة الانتخابية للمرشح. وعلى ضوء عدد الناخبين في كل دائرة، يختلف سقف الإنفاق لكل محافظة: في بغداد يحق لكل مرشح أن ينفق على الدعاية الانتخابية ما يصل إلى مليار دينار، فيما أقل سقف هو في محافظة المثنى بحدود 128 مليون دينار لكل مرشح. 

 

وتأتي باقي المحافظات حسب التالي: دهوك 195 مليون دينار، أربيل 272 مليون دينار، السليمانية 300 مليون دينار، نينوى 525 مليون دينار، كركوك 239 مليون دينار، ديالى 163 مليون دينار، الأنبار 245 مليون دينار، بابل 286 مليون دينار، كربلاء 170 مليون دينار، واسط 170 مليون دينار، صلاح الدين 215 مليون دينار، النجف 209 ملايين دينار، القادسية 182 مليون دينار، ذي قار 285 مليون دينار، ميسان 154 مليون دينار، والبصرة 406 ملايين دينار.

 

ورغم وجود سقوف واضحة، يشكك مراقبون في مدى التزام المرشحين بها، مؤكدين أن بعض المرشحين والأحزاب الكبيرة تتجاوز السقف بأضعافه، بينما يعجز آخرون عن الوصول إلى ربع السقف المحدد بسبب نقص الموارد المالية أو عدم الانتماء لأحزاب كبيرة.

 

وبهذا الشأن، تقول نبراس أبو سودة، مساعد الناطق الإعلامي في المفوضية لـ"الجبال": إن "التعليمات الخاصة بسقف الإنفاق الانتخابي وضعت لضمان العدالة والشفافية والمنافسة المتكافئة بين المرشحين والأحزاب والتحالفات السياسية، وهنا أولاً يجب تعريف الحملة الانتخابية والانفاق الانتخابي".

 

وتضيف: "الحملة الانتخابية يقصد بها جميع الوسائل والأنشطة المشروعة التي تستعمل لغرض إقناع الناخبين والتأثير في قراراتهم، أما الإنفاق الانتخابي فهي الأموال النقدية والعينية التي يتم صرفها لصالح الحملة الانتخابية، والحد الأعلى للإنفاق الانتخابي للمرشح الفرد هو 250 ديناراً عراقياً عن كل فرد في الدائرة المرشح عنها، أما الأحزاب والتحالفات فيكون السقف مضروباً بعدد مرشحي القائمة في الدائرة الانتخابية".

 

من جانبه، قال رئيس "مركز الشرق للدراسات الإستراتيجية والمعلومات" علي مهدي الأعرجي، إنه "مع اقتراب الانتخابات التشريعية المقررة في 11 تشرين الثاني المقبل، تركز المفوضية العليا المستقلة للانتخابات على تعزيز الشفافية وضمان نزاهة العملية الانتخابية من خلال وضع سقف واضح للإنفاق الانتخابي، حيث يُحدَّد الحدُّ الأعلى للإنفاق لكل مرشح بمقدار 250 ديناراً عراقياً مضروباً بعدد الناخبين في الدائرة التي يترشح عنها أي أن الرقم الفعلي 25 مليون دينار عراقي كمعدل، بينما تُحسب سقوف الأحزاب والتحالفات السياسية وفق المعادلة نفسها مع مراعاة عدد المرشحين في كل قائمة".

 

ويشير الأعرجي إلى أن "أي مترشح أو حزب يتجاوز السقف المحدد يواجه عقوبات صارمة، تتراوح بين الغرامات المالية والسجن، وقد تصل إلى حرمان المرشح من الترشح في الدورات الانتخابية المقبلة". 

 


الجبال

نُشرت في الاثنين 20 أكتوبر 2025 12:35 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.