في حديث مع أصدقاء تطرّقت ذات مرّة الى صورة محدّدة من ذاكرة الثمانينيات، حين كنت طفلاً في حيّ من أحياء مدينة الثورة [الصدر حالياً]، حين كانت الموظّفة تخرج من بيتها في هذا الحيّ الشعبي، بأناقة فائقة، ترتدي التنوّرة والقميص، وتسرّح شعرها على موديل الممثلات المصريات في أفلام تلك الفترة، ترتدي الحلي الذهبية أو بعض الاكسسوارات وتضع مساحيق التجميل. تنتظر الباص عند الشارع العام وتركب مع الموظفين والطلبة والكسبة، من دون أن تحدث لها أي مشكلة.
كانت تجذب انتباهي الجوارب الشفيفة المقاربة في لونها للون البشرة. نرى هذه الجوارب على سيقان الموظفات والطالبات الجامعيات، وعلى سيقان معلماتنا في المدارس، وكانت تمنح انطباعاً، هو جزء من الصورة العامة عن شكل المرأة الأنيقة والجميلة في تلك الفترة.
قلت في الحديث مع الأصدقاء؛ إن جزءاً أساسياً من قوّة هذه الصورة أن المرأة، الموظّفة أو الطالبة في وقتها، كانت مسنودة من السلطة، وتحديداً الموظّفة التي كانت تجلب المال لعائلتها، وكان ذلك يعطيها حريّة الكلام والتصرّف داخل العائلة. لم يكن المجتمع بذاته قد وصل إلى مرحلة تقبّل أنموذج المرأة المتحرّرة من العادات والتقاليد، وإنما كان يتكيّف مع الانموذج المفروض من السلطة من الأعلى.
والدليل أنه بمجرد انهيار صورة الموظّف الحكومي في التسعينيات، مع ضغط العقوبات الاقتصادية الدولية، بحيث صار مرّتبه لا يكفي لشراء دجاجة، حتى وجدنا أن المرأة الموظفة قد فقدت الكثير من مصادر قوّتها السابقة، بالإضافة إلى أن السلطة تخلّت عن سطوتها الثقافية على المجتمع العراقي، وتركت للأعراف الدينية والعادات القبلية أن تنتعش من جديد، ضمن ما كان يعرف بالحملة الإيمانية، فتركت المرأة للمجتمع هو الذي يحدّد لها موقعها ويحدّد لها المساحة التي تتحرّك فيها.
نحن اليوم، وبعد عشرين سنة على انتهاء حقبة التسعينيات الخانقة، ما زلنا نسير على الأعراف التي انتعشت وترسّخت في تلك الحقبة، مع جرعة أكبر من الأسلمة للحياة الاجتماعية العامة، وهذا ما يمكن أن نلاحظه بوضوح في المدن والبلدات خارج العاصمة، وفي الأحياء الشعبية داخل العاصمة. فهامش الحرية الشخصية للمرأة تقلّص الى حدّ بعيد. وصارت صورة لفتاة تركب الدراجة الهوائية في شوارع بغداد نوعاً من الفضيحة، كما حدث قبل سنوات.
إن سطوة الدولة في ظل نظام البعث كانت تسهّل فرض الأنماط الثقافية والاجتماعية المقبولة من قبل السلطة، وكانت قادرة على تصدير الانموذج المفضّل من قبلها إلى الواجهة، ولكن هذه السطوة أضعفت المجتمع، وأضعفت إمكانية أن يكون التغيّر والتقدم طبيعياً، وبالتالي أكثر صلابة إزاء الهزّات التي يتعرّض لها المجتمع. لذا ما إن تراخت يد السلطة، كما في عقد التسعينيات، أو انهارت، كما حدث بعد 2003 حتى وجدنا المجتمع يرتدّ إلى البنى السابقة على الدولة؛ إلى الطائفة والعشيرة، وفي هذين الشكلين البسيطين للتنظيم الاجتماعي ما قبل الدولة، لا مكان للمرأة الا بوصفها تابعاً.
لا تسعى منظومة السلطة في العراق اليوم إلى تقوية المجتمع وإنما الاستمرار بإدارة نظام صدّام حسين نفسه، حيث الدولة الريعية الماسكة بالثروة، والفساد الذي يتيح الاستيلاء على كل المصالح الاقتصادية خارج مؤسسات الدولة، لصالح جهات حزبية، وهذا الوضع، بالإضافة إلى ضعف المؤسسات، وشعور المواطن بأن القانون لا يطبّق على الجميع ولا يلتزم به الكثيرون، ويستطيعون ليّ عنقه عند الحاجة، فإن المواضعات ما قبل 2003 ما زالت هي الحاكمة، وما زالت السلطة تحاول فرض انموذجها على المجتمع، بما في ذلك؛ موقع المرأة، وما هو مطلوب منها من أدوار.
وعلى الرغم من إقرار الحقوق الدستورية للمواطنين بما فيهم النساء، إلا أن السلطة قادرة على اشهار سلاح العادات والتقاليد والأعراف الدينية في وجه المرأة ذات الصوت العالي لاخراسها، بل وتجريمها اجتماعياً وأخلاقياً.