خلال فترة اصطفافه في طابور انتظار "مصائر بلدان الشرق الأوسط الجديد"، بقي العراق تحت تأثير سردية واحدة متنوعة الوسائل، كانت السردية تقول أن شيئاً ما، ينتظر النظام السياسي العراقي، سواء على شكل ضربات واغتيالات وإنهاء وجود الفصائل أو الحشد الشعبي، وصولاً إلى عقوبات اقتصادية.
التغيير قادم.. الإطار يسخر
كانت هذه السردية تصدر عن لسان تقارير وتحليلات سياسية أو "تكهنات"، وكانت تعززها إشارات ومواقف أميركية تتصاعد وتتراجع ولا تأخذ شكلًا قاطعاً لمصير النظرة الأميركية تجاه العراق، فالمؤشرات الأميركية متضاربة تجاه العراق بين تطمين وتهديد، بين إلغاء تفويض الحرب على العراق وإرسال شركات أميركية للعمل في العراق كمؤشر مطمئن، وبين تصنيف 4 فصائل على قائمة الإرهاب وكذلك مواقف وتحركات من قبل شخصيات بالكونغرس الأميركي حول قانون "تحرير العراق من إيران".
بالمقابل، كانت الشخصيات السياسية من قوى الإطار التنسيقي، والمنصات والشخصيات الإعلامية المقربة منها، تواجه هذه السردية بالسخرية او النفي، حتى أصبحت "نبوءة فائق الشيخ علي" التي بات يصطلح عليها بـ"القوة الساحقة الماحقة" التي بشّر بأنها ستزيل الطبقة السياسية، أصبحت أيقونة سخرية يستخدمها المقربون من الإطار لإطلاقها على التحذيرات والتقارير الجديدة التي تذهب الى هذا السياق.
الإطار بدأ يؤمن.. شيء ما قادم
بعد ذلك، ومنذ حوالي شهر، تطورت طريقة تفاعل قوى وشخصيات الإطار التنسيقي والفصائل، بعد أن كانوا يسخرون من هذه التقارير، باتوا يتنبونها ويؤمنون بها، فالتحذيرات من محاولات "الإطاحة بالعملية السياسية" باتت تصدر عن لسان زعيم دولة القانون نوري المالكي، والحديث عن ضربات وتحركات على شكل طائرات إسرائيلية-أميركية، باتت تحذر منها حركة النجباء، أما زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، هو الآخر بات يعتقد بوجود خطورة قد تأتي من خلف الحدود ومن جهة سوريا تحديداً، وهكذا بات الجميع "مؤمن" بما كان يسخر منه في الأمس، وأن متغيرات الشرق الأوسط ليست بعيدة عن العراق.
ومن مرحلة السخرية، الى مرحلة التصديق والإيمان بما كان يُسخر منه، وصل جناح الغطار إلى تبنّي رؤية موحدة على ما يبدو لمواجهة "التغيير"، بل أن التغيير والحديث عنه أصبح "شبهة"، وأي محاولات تغيير ستترجم إلى كونها "محاولات إسرائيلية"، وهي سردية ليست جديدة لدى زعماء النظام السياسي في الإطار التنسيقي، لكنها أصبحت اليوم أكثر موثوقية وتأثيراً مع ما يحدث في المنطقة.
التغيير قادم؟.. الامبراطورية الشيعية قادمة أيضاً!
الرؤية الموحدة هذه عنوانها التخويف، فمن مرحلة السخرية، ثم إإعلان التصديق بهذه المؤشرات، بدأ جناح الإطار يطرح سردية الخوف المضاد، رداً على تقارير التخويف من الضربات والإطاحة بالنظام والعقوبات، وباتت المعادلة تُلخّص بـ"محاولات تغيير سيقابلها تأسيس امبراطورية سلاح منفصلة عن العراق".
قبل أيام، وفي تجمع انتخابي، قال زعيم دولة القانون نوري المالكي وبكل صراحة رداً على ما وصفه بالتخويف من "تغيير العملية السياسية" بأنهم "لن يستطيعوا أبداً وأبناؤنا في أيديهم السلاح"، في إعلان صريح على أن الاحزاب الحاكمة دونها الحرب.
وفي ذات السياق، صدرت مواقف مشابهة لكنها أكثر وضوحاً من قبل المحللين السياسيين المقربين من الإطار، على سبيل المثال قال المحلل السياسي سلام عادل إن هناك "مليون مسلح سيلتهم 11 محافظة بالتعاون مع الحرس الثوري ورفع العلم الإيراني رداً على أي محاولة لتغيير العملية السياسية".
وبنفس الطريقة، قال المحلل السياسي كامل الكناني، إن "أي محاولات للفوضى للإطاحة بالعملية السياسية، سنتحالف مع إيران ونؤسس الامبراطورية الشيعية والتخلص من المشاركة التي نصبر عليها على مضض".
المرحلة الثالثة التي وصل إليها الإطار وزعامات "الحاكمية الشيعية"، المتمثلة بـ"التخويف المضاد"، ارتبطت بسردية كبيرة اسمها "امبراطورية او دولة شيعية يؤسس لها السلاح"، وهي تعطي تصوراً عن استنساخ التجربة اليمنية في العراق، التي تتلخص بوجود حكومتين، حكومة معترف بها من قبل الأمم المتحدة وتسمى "حكومة شرعية"، وفي اليمن عاصمتها عدن، وحكومة أخرى محكومة بالسلاح ولا يعترف بها دولياً وعاصمتها اليوم صنعاء.
الفصائل وواشنطن تلتقيان بالتفكير.. إنهاء "العراق التاريخي" مقابل "خلود الحاكمية"
لا تبدو هذه السردية كـ"خبر سيء" بالنسبة للجانب الأميركي، فالتقسيم، وتحويل جزء من العراق الى ممر آمن وصديق صريح لا يتعامل وفق "خط التوازن"، جزء لا يمتلك علاقات مع إيران بشكل نهائي، ولا ضير من ذهاب جزء آخر كجزء صريح من إيران، والتعامل معه كعدو صريح، للتلخص من الثنائية المحيرة والمساحة الغامضة التي يتحرك فيها العراق.
في قراءة للتصريحات الأميركية، تبدو سردية "الانقسام الشيعي" متطابقة مع ما تفكر فيه واشنطن، فبينما لم تعد سردية المحور تتحدث عن عراق مقاوم واحد بل جزء شيعي منفصل، يتحدث اللسان الأميركي بنبرة متطابقة، فلم يعد يتحدث عن "دعم العراق ككل"، وباتت صيغته الثابتة تقول: "ملتزمون بدعم شركائنا في جميع أنحاء العراق الذين يعملون على بناء دولة مستقرة وذات سيادة"، هذا يكشف عن وجود "فصل"، وواشنطن لم تعد تنظر للعراق ككتلة واحدة، بل تنظر لدعم شركاء محددين هم "الذين يعملون على بناء دولة مستقرة وذات سيادة"، وفصلهم عن الجزء الآخر.
وفقاً لهذه السردية، هذا يعني أن المحور وصل لمرحلة اليأس من إصلاح الأمر وإن الهجوم وتحجيم الفصائل واقع لا محالة، وفي ذات الوقت، لا توجد إمكانية إحباط هذا "الإلغاء" التام لسلطة السلاح وقوى الإطار، لذلك انتقلوا الى اختيار "مصير الحوثيين"، أي جعل العراق عبارة عن دولتين وعاصمتين واحدة أممية، والأخرى عاصمة سلاح، وهذا الخيار بمثابة القبول بفقدان جزء من العراق، وفقدان نهائي لمفهوم "دولة العراق" ككل، مقابل الحفاظ على السلطة بالجزء المتبقي، لكن لا يُعرف حتى الآن أي محافظة ستكون "عدن العراق"، وأيها صنعاء؟