متناقضات ومصلحة مشتركة تمنع نشوب حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل

10 قراءة دقيقة
متناقضات ومصلحة مشتركة تمنع نشوب حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل تعبيرية

قبل أسابيع فقط، كان العالم يترقب وقوع حرب إقليمية شاملة تتقد شرارتها الأولى في منطقة الخليج، بتجدّد التراشقات بين إيران وإسرائيل في أكتوبر الماضي، واشتداد حدّتها بعد اغتيال إسماعيل هنيّة في قلب العاصمة طهران بتموز الماضي خلال حضوره مراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان. ساد التهديد الأجواء، وأصبحت التعليقات المتبادلة عناوين رئيسية في الأخبار اليومية. فإسرائيل تتهم إيران بالتخطيط ودعم الفصائل الفلسطينية المسلحة في تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، وطهران تحمّل تل أبيب مسؤولية اغتيال هنيّة في عقر دارها وتتوعّد بالانتقام في كل فرصة.. 

 

لكن ذلك الغليان بدأ يهمد شيئاً فشيئاً مع تهدئة حدّة الخطاب من الجانب الإيراني، والذي عبّر عنه الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، وحكومة طهران، في عدّة منابر.

 

وإذا نظرنا إلى المشهد من زاوية الواقع، نرى عوامل مختلفة محليّة وأخرى دولية تخص الجانبين تدفع كل واحد منهما للنأي بنفسه عن المواجهة المباشرة قدر المستطاع، ودفعه إلى الصفوف الأخيرة بقائمة الخيارات.

 

غايات إيرانية


يعاني النظام الإيراني من أزمة شرعية حقيقية يعكسه الغضب الشعبي المتنامي منذ عقود ضد السلطة بسبب خنق الحريات، والفقر، والبطالة، وانهيار الوضع الاقتصادي إثر العقوبات الدولية على النظام، وتأجج ذاك الغضب في نهاية 2022 عقب مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق لعدم التزامها بقواعد اللباس بالبلاد، وقمع التظاهرات بعنف من قبل الأجهزة الأمنية. جسدت تلك التظاهرات أقوى وأخطر الاحتجاجات بوجه النظام منذ عام 1979، وشكلت جرحاً لم يندمل بعد. فمنذ ذاك الحين تعمل الحكومة الإيرانية على امتصاص الغضب وتهدئة الوضع بالترغيب والترهيب معاً. وقد عبرت الحملة الانتخابية بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي عن هذا التوجّه بقطع الوعود وإعلان خطط للتنمية والإصلاح وتحسين الخدمات. وقد أكد المرشد الأعلى الإيراني علي الخامنئ خلال اجتماعه بالحكومة الجديدة وبرئاسة بزشكيان، على حل المشاكل الاقتصادية وأن تكون معالجة مشكلة الغلاء والتضخم أحد أولويات الحكومة الجديدة. ذلك يدعو إيران إلى إبعاد أي توتر قد يزيد الضغط على الداخل الإيراني، وبالتالي يدفع إلى تفجير الكامن من جديد. 

 

ويواجه الاقتصاد الإيراني أزمة حقيقة بسبب العقوبات الغربية، وما أفرزته من انهيار اقتصادي وهبوط بسعر العملة المحلية، ومن ثم ارتفاع نسب التضخم، والديون، والعجز المالي. فحسب تقرير  نشره مركز أبحاث البرلمان الإيراني، يقدّر العجز بالموازنة العامة للعام الحالي حسب التقويم الإيراني، بـ 1340 تريليون تومان (ريال) أي ما يعادل 47.017 مليار دولار أميركي.

 

وتولي الحكومة الإيرانية الجديدة في المرحلة الراهنة الأولوية للاقتصاد قبل كل شيء، وتطوير التجارة والاستثمار، بالانفتاح على الخارج وخصوصاً الجانب الشرقي من العالم، والتعويل على إيران كأحد الممرات الرئيسية للتجارة الإقليمية والدولية، خصوصاً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. وقد أكدت طهران على هذا التوجّه، عبر رئيس البلاد بزشكيان ووزير خارجيتها عباس عراقجي الذي أفصح عن النية بإعطاء الأولوية للتجارة مع الدول المجاورة والأوروبية أيضاً، فأكد أن "الوضع الاقتصادي لإيران جعل من الدبلوماسية الاقتصادية ضرورة لا غنى عنها". أوضح عراقجي أن إيران تسعى إلى علاقات قائمة على مبدأ "تكافؤ الفرص" مع الدول الأوروبية، والتركيز بتعاملها مع الولايات المتحدة على "إدارة الصراع ومواجهة السياسات العدائية لأميركا وإسرائيل".

 

ولم يخف الرئيس مسعود بزشكيان رغبة إيران في ترميم العلاقات مع أوروبا وإصلاح ذات البين مع الأميركيين أيضاً. كيف لا وإيران اليوم بحاجة إلى 200 مليار دولار لإحداث تنمية تقدر بـ8% فقط، هذا الواقع هو ما يبرر اتخاذ بزشكيان قرار "مدّ يد الصداقة للجميع"، ووصف أعداء أمس بـ "الأخوة" اليوم. وهذا إذ ما دلّ على شيء فهو يدل على انشغال إيران بالبحث عن مصادر تمويل تنعش حالها الاقتصادي، وجذب استثمارات تسندها في تحويل مخططاتها لوقائع محسوسة، وذلك يحتاج إلى جهود حثيثة لإعادة الثقة ومستوى من الاستقرار والعلاقات الوديّة، ما يجبر طهران على التعقّل أكثر وإدارة الصراع بحذر. وقالها بزشكيان في مؤتمر صحفي مؤخراً: "إن انعاش الانتاج وتحقيق النمو الاقتصادي بنسبة 8% بحاجة إلى بناء أرضية ملائمة للمنتجين المحليين. والخبراء يرون أننا بحاجة إلى استثمارات أجنبية لمعالجة مشاكل البلاد".

 

ويجسد البرنامج النووي الإيراني بجانب آخر قضية أمنية بالنسبة لطهران، تؤكد طهران استمرارها بالعمل عليه متجاوزة الرفض الدولي والعقوبات التي تعزلها عن النصف العالم الغربي وتكبدها خسارة مئات مليارات الدولارات. فإنجاز المشروع إن تم سيعود على البلد ونظامه بعوائد اقتصادية، تقنية، وصناعية كبيرة، فضلاً عن تزويده بقوّة سياسية تضاعف نطاق التأثير.

 

كما يشكل المشروع قضية أمنية بالنسبة لإسرائيل أيضاً بالجهة المقابلة، فهي تنظر إليه كتهديد لكيانها، فإن تمكن إيران من تطوير المشروع والحصول على القنبلة النووية يؤدي لتبلور واقع جيوستراتيجي جديد في الغالب لن يوافق مصالح إسرائيل. وهي تصب جهودها منذ سنوات على منع إيران من تطوير مشروعها الأمني، بوصفه خطراً يهدد السلم العالمي والاستقرار وتوازن القوى في المنطقة.

 

رغم كل ذلك، تستمر إيران بمشروعها وقد وصل إلى مراحل متقدمة، لدرجة حذر منها وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن قبل شهور من أن إيران قد تصل لإنتاج قنبلة نووية خلال أسبوع أو أسبوعين. 

 

وتشير تقارير إلى تخصيب إيران اليورانيوم بدرجة نقاء تصل إلى 60% حتى الآن، وهي تقترب من نسبة الـ90% المطلوبة لتصنيع الأسلحة. وفي حال وقوع حرب مباشرة بين تل أبيب وطهران سيكون ضرب البرنامج النووي والمفاعل الإيرانية أول الأهداف الإسرائيلية، ما يضع المشروع كاملاً تحت خطر الانهيار. لذا فإن إيران تسعى في هذه المرحلة إلى حماية مسار البرنامج بالتأكيد على سلميته، ومحاولة العودة إلى نطاق الاتفاق الذي يجمعها مع الغرب حوله (الاتفاق النووي) مقابل تخفيف العقوبات على إيران، لتصيب عصفورين بحجر واحد (حماية البرنامج ودعم الاقتصاد). وذلك يحتاج إلى مستوى من التهدئة والجدية وإثبات حسن النيّة.

 

تلك الغايات انعكست بصورة واضحة على الخطط المستقبلية للسياسة الخارجية الإيرانية الجديدة، التي حدد ملامحها الرئيس الإيراني، بإيلاء الاهتمام لتحسين العلاقات الإقليمية والدولية (تصفير المشاكل)، ورفع العقوبات المفروضة على البلاد، مع الحفاظ على سياسة البلاد في دعم حلفائها الإقليميين. كما أوضح وزير الخارجية النية بالحفاظ على الاستقرار وحفظ المسار القائم حالياً بالاستناد لما أسماه بـ "دبلوماسية المقاومة" وضمنها "وضع دعم الوكلاء في المنطقة على رأس الخطط الإيرانية"، ما يؤكد رغبة إيران بالاستمرار بسياستها القائمة منذ سنوات (حصر العراك ضمن نطاق الوكالات وتجنّب المواجهة المباشرة).

 

اعتبارات إسرائيلية

 

في الجانب الإسرائيلي، يمثل ضمان الأمن واستقرار العمق الإسرائيلي أولوية ثابتة لدى الحكومات الإسرائيلية، والآن بات التحدّي جدياً أكثر مع  ظهور  الخطر في الداخل. 

 

قبل عملية طوفان الأقصى، واستعار نيران الحرب في غزة، عملت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو على تكوين صورة ذهنية تروّج لانتهاء القضية الفلسطينية وسيطرة إسرائيل على الداخل الفلسطيني، وبدأت الحكومة في تل أبيب بالتركيز على الخارج وتطبيع العلاقات مع دول المنطقة. لكن عملية طوفان الأقصى فنّدت سرديات نتنياهو، ووضعته في مأزق هو يكافح للخروج منه. 

 

صورت عملية طوفان الأقصى إخفاقاً أمنياً وصم جبين الحكومة الإسرائيلية، مع فشل أجهزة الكيان الأمنية في التنبؤ أو كشف النوايا حول العملية قبل وقوعها. فيحمل معارضو الحكومة بتل أبيب رئيسها بنيامين نتنياهو مسؤولية الضربة التي أصابت الكيان، وهم يدفعون باتجاه حلّها، وإن فشل نتانياهو في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب على غزة (القضاء على حماس، شل قدرتها العسكرية، واستعادة الأسرى الإسرائيليين) حتى الآن يزيد من شدّة الغيض ضده على المستوى الشعبي، إذ باتت التظاهرات الاحتجاجية تعم أنحاء الكيان رافضة للسياسات الحكومية الداخلية ومطالبة بعقد صفقة لاستعادة من بقي من الأسرى اليهوديين لدى حماس وإنهاء الحرب (أكثر من 60% يطالبون بإنهاء الحرب). ذلك الانقسام والرفض الشعبي يحشر نتانياهو في زاوية ضيقة، لا يُخفى ذلك، وهو يسعى لاهثاً لرأب الصدع في حكومته وإنقاذها من الأنهيار، لذا فإن الدخول في حرب مباشرة مع إيران في هذه المرحلة قد يزيد الوضع سوءاً، ويضرّ بمسيرة نتنياهو وخططه السياسية.

 

وفي ظل تقلّص الاهتمام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط، وانقسام تركيز واشنطن على تنامي النفوذ الصيني، والحرب الروسية في أوكرانيا، تعمل إسرائيل على غرار قوى إقليمية أخرى على سد الفراغ وتعزيز أمنها الذاتي، فهي تخطط لبناء نظام إقليمي جديد تأخذ فيه دور القائد بحكم (التفوق التكنولوجي)، والاندماج مع المحيط الإقليمي، وهذا يفسر الغاية من التطبيعات التي قامت بها إسرائيل مع دول عربية وتعمل على تحقيقها مع دول أخرى. 

 

لكن نقص الاهتمام لا يعني انتهاء المصالح، وإن حرباً إقليمية مباشرة بين  إيران وإسرائيل من المؤكد ستضع مصالح الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية كبرى، في المنطقة، تحت التهديد. وذلك يحفز تلك الدول رغم إعلان دعمها الكامل لإسرائيل في حربها ضد حماس للضغط على تل أبيب من أجل خفض التصعيد وتلافي الحرب. هذا ناهيك عن التكاليف المالية والعسكرية الباهضة التي ستتحملها إسرائيل مع حلفائها.

 

وتخشى إسرائيل أن يقوي الدخول في حرب جديدة، المطالب بتنفيذ حل الدولتين والعودة لحدود 1967 خصوصاً مع بروز موقف دولي داعم للفلسطينيين. ويدفع بقوى إقليمية تعيش معها إسرائيل علاقة وديّة إلى الوقوف مع الجانب الإيراني في مواجهتها، وبالنتيجة الإخلال بالتوازنات الإقليمية والعلاقات التي بنتها تل أبيب خلال السنوات الماضية، والعودة إلى الوراء. 

 

كل ذلك يضع الجانب الإسرائيلي أمام خيار لا بديل له، وهو عدم تشتيت القدرات في جبهتين، والاكتفاء بالتركيز على الجبهة الداخلية وإعادة ضبطها بمحاربة حماس وبسط السيطرة على أكبر مساحة من أراضي غزة واستعادة الاستقرار في مناطقها، خصوصاً مع إعلان حماس استعداداها لخوض معركة استنزاف طويلة بإسناد من حلفائها.

 

وإن انشغال الجانبين الإيراني والإسرائيلي كل طرف على نقيض الآخر، ببناء القوة وحماية المصالح الذاتية القائمة وبسط السيطرة والنفوذ، يشكل لديهما مصلحة مشتركة في عدم المخاطرة و"إبقاء الوضع الراهن"، أي حفظ المناورات بمستواها الحالي ومنع التصعيد لمستوى أعلى، بالتالي استمرار إيران باستخدام حلفائها بالعراق ولبنان واليمن أذرعاً في المناورة، ومواصلة إسرائيل بطش المدنيين الفلسطينيين في حربها وتنفيذ سياساتها.

لافا عثمان

نُشرت في الأربعاء 18 سبتمبر 2024 12:00 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.