في مدينة تتكئ على ضفّتي الماء لكنها تفتقده، تتعمّق في البصرة أزمة العطش عاماً بعد عام، وتغدو الملوحة في أفواه أهلها مرارةً مضاعفة، لم تعد شكاوى المواطنين مقتصرة على تغيّر الطعم بل بات الحصول على مياه صالحة للاستخدام اليومي يتطلّب ثمناً باهظاً، بعد أن تجاوز سعر طن الماء المنقول بالصهاريج، حاجز 20 ألف دينار.
إقرأ/ ي أيضاً: أزمة المياه بالبصرة| برلماني يتساءل عن مصير 4 مشاريع تحلية بالمحافظة.. وحقوق الإنسان تطالب بإعلان "النكبة"
وسط هذا التدهور المستمر، يقف مشروع ماء الهارثة الكبير المعروف بـ"المشروع الياباني"، في عين العاصفة، فهو ليس مجرد محطة تحلية بل ركيزة أساسية في معادلة الأمن المائي للبصرة والمصدر الرئيسي الذي تعتمد عليه معظم أحيائها.
إلا أن هذا المشروع المصمَّم لمعالجة مياه نهرية ضمن تراكيز ملحية لا تتجاوز سقفاً معيناً، يجد نفسه اليوم أمام واقع تجاوز فيه ملوحة شط العرب حدود التصميم بأشواط، حتى بلغت أحياناً 18,000 TDS، ما يهدّد بخروجه عن الخدمة بشكل نهائي.
وفي هذا الإطار، يقول المهندس علاء هاشم البدران، الخبير في شؤون المياه، إن "مشاريع التحلية بطبيعتها حساسة لنوعية المصدر المائي".
وأوضح البدران في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "مشروع الهارثة صُمم أصلاً لمعالجة مياه نهرية بتركيز ملحي لا يتجاوز 10,000 TDS كحد اقتصادي، مع قدرة تحمّل قصوى تبلغ 12,000 TDS، بينما تشير القياسات الأخيرة إلى تجاوز التراكيز عتبة 18,000 TDS، وهو ما يتجاوز قدرة المشروع الفنية ويهدد استمراره".
وذكر البدران، أن "تراجع كفاءة المشروع يعود إلى التباين الكبير بين قدرات المعالجة في منظومات التحلية النهرية مقارنة بتلك المصممة للمياه البحرية" مبيناً أن "المنظومات البحرية تتحمل حتى 50,000 TDS بينما لا تحتمل المنظومات النهرية إلا نصف ذلك ومع هذا الارتفاع تُضطر منظومة الهارثة إلى إبطاء المعالجة مما يقلّص من كميات المياه المنتجة ويزيد من الضغط على الشبكة".
ويربط البدران، أزمة الملوحة الحالية، بتراجع الإطلاقات المائية من أعالي دجلة والفرات، مقابل تزايد قوة المدّ البحري القادم من الخليج، حيث أشار إلى أن "الرياح الجنوبية الشرقية ومرحلة منتصف الشهر القمري تساهمان في دفع مياه البحر إلى داخل مجرى شط العرب".
ولفت إلى أن "توقف نهر الكارون عن الرفد منذ 2009 عطّل (الحزام الواقي) الذي كان يصدّ اللسان الملحي"، مضيفاً أن "التحاليل المختبرية أثبتت أن أغلب الأملاح الذائبة ذات مصدر بحري".
وفيما يخص إدارة الملف، وصفه البدران بأنه "جوهر المشكلة داخلي"، منتقداً "غياب التخطيط الاستراتيجي وانعدام اتفاقات تقاسم الحصص المائية واعتماد الدولة على الأمطار كخزان رئيسي".
الأزمة لا تتعلق بالإنتاج فقط، يقول البدران، الذي أكد أن "الأزمة متعلقة بقدرة الشبكة على إيصال المياه الصالحة"، مضيفاً "حتى لو أُنتجت مياه بنسب ملوحة أقل من 500 TDS، فإن الشبكات الحالية المتهالكة تلوثها قبل أن تصل إلى البيوت".
من جهته، يقول قائممقام قضاء الهارثة نذير الشاوي، إن "مشروع الهارثة، الذي انطلق عام 2013 واكتمل في 2020، صُمم على أساس معطيات ملحية قديمة لم تكن تتجاوز 10,000 TDS".
وأوضح الشاوي في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "الحدّ التصميمي الأقصى للمشروع يبلغ 15,000 TDS، وهو ما تم تجاوزه مؤخراً، مما أدّى إلى انخفاض الإنتاج من 8,000 متر مكعب في الساعة إلى 4,000 فقط".
وأكد الشاوي، أن "المشروع لا يزال يعمل رغم تجاوز الحد المسموح، لتفادي توقف كارثي"، موضحاً أن "الماء المنتج لا يمكن خلطه بمصادر أخرى لأن ذلك سيفسد الكمية بالكامل، ولهذا تم اللجوء إلى دعم المناطق المتأثرة بصهاريج تأتي من شمال المحافظة رغم أن اللسان الملحي امتد حتى إلى قضاء الدير".
وحمّل الشاوي، وزارة الإعمار والإسكان، "مسؤولية تشغيل المشروع بوصفه اتحادياً"، لكنه يشير إلى أن "مسؤولية التوزيع تقع على عاتق مديرية ماء البصرة".
وأضاف قائممقام قضاء الهارثة: "نحن ننسق يومياً لتأمين عدالة التوزيع بين الأقضية رغم صعوبة الواقع".
وختم الشاوي بالتحذير من أن "أزمة الماء لن تنتهي إلا بتحلية البحر"، في إشارة إلى مشروع التحلية الاستراتيجي الذي أقره مجلس الوزراء مؤخراً، قائلاً إن "المشروع قد يشكل حلاً جذرياً لكنه يحتاج إلى ما لا يقل عن أربع سنوات للتنفيذ".