"بعبع" الفيدرالية

4 قراءة دقيقة
"بعبع" الفيدرالية تعبيرية

على واحدة من القنوات الفضائية العربية، سمعت تصريحاً لمحلّل سياسي سوري كان يتحدّث من دمشق، وعلِق في ذهني من كلامه قوله إنّ هناك مؤامرةً إمبرياليةً صهيونيةً لإقامة النظام الفيدرالي في سوريا، وفرض الديمقراطية في المرحلة الانتقالية.

 

أحالني هذا الكلام إلى مزاجٍ عامٍّ موروثٍ من حقبة البعث [في العراق وسوريا]، يُثقّف ضدّ أيّ مقترحات تخفّف من مركزيّة الدولة القومية في هذين البلدين، وينظر إلى مقترح الفيدرالية على أنّه رجسٌ من عمل الشيطان، لا حلاً لبلدٍ متعدّد الثقافات والإثنيات، يمكن أن يُسهم في تخفيف الصراع، وإدارة البلد بحدٍّ أدنى من السلم الأهلي، وفتح باب التنمية والاستثمار في جوٍّ آمن.

 

من الغريب مثلاً أن بلداً صغيراً مثل سويسرا، بمساحة تعادل عُشر مساحة العراق، وخُمس مساحة سوريا، مقسّمٌ إلى 26 فيدرالية أو كانتوناً، وفي كلّ كانتونٍ دستورٌ خاص، وحكومةٌ وبرلمانٌ ومحاكم.

 

أمّا سبب تشكّل هذه الكانتونات في هذا البلد الصغير، فيعود إلى التعدّد الديني واللغوي؛ فسويسرا مقسّمة ما بين الكاثوليك والبروتستانت، ومواطنوها يتكلّمون أربع لغات: الألمانية والإيطالية والفرنسية والرومانش. ويرى المواطنون أنّ الشكل السياسي الحالي يساعدهم على الحفاظ على أنماطهم الثقافية الخاصة، ويوفّر عدالةً في توزيع الثروات والمشاركة في السلطة. أي إنّ النظام الفيدرالي يُمثّل حلاً للتنازع على السلطة، وشكلاً يحقّق في النهاية وحدة البلد على أساس السلام والعدالة والمشاركة.

 

سقطت الديكتاتورية في العراق وسوريا، وظهر إلى السطح مجتمعٌ منقسم، نتيجة السياسات الاستبدادية السابقة، وتوقّع كثيرون أن تكون النخب السياسية الجديدة على وعيٍ بمضارّ وعقم أساليب التسلّط في إدارة البلدان المتنوّعة.

 

لكن للأسف، تشير الأحداث في سوريا إلى أنّ النخب الحاكمة الجديدة لا تفهم هذا الدرس، وتكرّر أساليب الأنظمة الديكتاتورية. أقول هذا ونحن في العراق لسنا بأفضل حال، فلولا الإشراف الأميركي المباشر على مسار العملية السياسية بعد 2003، لما وصلنا إلى دستورٍ دائمٍ يُقرّ مبدأ الفيدرالية، ويعزّز صلاحيات الأقاليم والمحافظات، ويؤسّس للفصل بين السلطات، وإقرار الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، والحريات المدنية. وعلى الرغم من أن الحصيلة على أرض الواقع ليست جيّدة حتى الآن، إلا أنّ علينا أن نفكّر دوماً بالسيناريو البديل في حال غياب دستورٍ من هذا النوع.

 

وفي العودة إلى عام 2003، طرح الدكتور عصام الخفاجي، على سبيل المثال، مشروعاً لتقسيم العراق إلى سبع فيدراليات منذ البداية، لإشراك المواطنين في إدارة مناطقهم، ولتخفيف حدّة الصراع الإثني والطائفي على السلطة والثروة في بغداد. لكنّ معظم القوى السياسية هاجمته، واتّهمته بأنه يسعى إلى تفتيت البلد.

 

أما إقرار الفيدرالية لكوردستان العراق، وتأجيل حسم مصير المناطق المتنازع عليها خارج الإقليم إلى مفاوضاتٍ مستقبلية، فكان شكلاً من أشكال نزع فتيل صراعٍ قوميٍّ كان يمكن أن يشتعل على تخوم الإقليم والمناطق المختلطة قومياً.

 

الجميع يتذكّر أن الصراع الطائفي هو الذي انفجر لاحقاً، لا الصراع القومي، رغم أن المشاكل ذات الطابع القومي ما تزال قائمة. لقد أنهت الفيدرالية جزءاً كبيراً منها.

 

الفيدرالية ليست شرّاً أو "مؤامرة"، بل هي حلٌّ مناسبٌ لبلدٍ متنوّع، مثقلٍ بإرثٍ طويلٍ من الصراعات والثارات. وحين تفكّر النخب الحاكمة بعقلية المنتصر، وتنظر من عينيّ جماعتها القومية أو الطائفية إلى الآخرين، فإنّها لن تبني مواطنةً شاملة، بل ستدفع المختلف إلى الانكفاء، أو البحث عن حماية من استبدادٍ جديدٍ بثوبٍ مختلف.

 

ما زالت هذه العقلية حاضرةً في العراق للأسف، وما زلنا بعيدين عن تحقيق المواطنة الحقيقية، لكنّ الوضع، برغم ذلك، أفضل بكثير من "ضباب البدايات" الذي تغرق فيه السلطة الجديدة في سوريا، والتي ما تزال بحاجةٍ ماسّة إلى تأمّل الدرس العراقي جيداً، وتجنّب تكرار أخطائه.

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في السبت 19 يوليو 2025 02:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.