منذ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وضعف "جبهة المقاومة" في الشرق الأوسط بشكل عام، طرأ تغيير كبير على خطاب العديد من الفصائل التابعة للحشد الشعبي و"الهلال الشيعي".
وعقب الحرب الأميركية عام 2003 بوقت قصير، تعرضت القوات الأميركية وقوات التحالف في العراق لضغوط شديدة من قبل هذه الجماعات "المقاومة" للانسحاب من العراق، لدرجة دخول البرلمان إلى خط الواجهة.
ورغم أن الحكومة العراقية لم تعلن رسمياً عن رغبتها في خروج القوات الأميركية وقوات التحالف من العراق، كون الوجود الأميركي في العراق قائماً على اتفاق سابق وطلب رسمي من الحكومة العراقية الجديدة بعد سقوط نظام صدام حسين، ولاستمرار شعورها بالحاجة إلى بقاء القوات الأميركية بسبب الإرهاب والتدخلات الخارجية وضعف الجيش العراقي - كما بدا واضحاً بظهور تنظيم داعش - لكن مع ذلك واصلت فصائل "المقاومة" القريبة من إيران الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها من أجل مغادرة العراق، وقد صاغت تلك الفصائل سياساتها بناء على هذا الخطاب.
على سبيل المثال، منذ عام 2011 حتى عام 2019، وقبل سقوط نظام بشار الأسد وإضعاف "الهلال الشيعي"، كانت غالبية شعارات شخصية مثل قيس الخزعلي، الذي يعتبر أحد أبرز شخصيات "جبهة المقاومة"، مناوئة للكيان الصهيوني والمحتل الأميركي والتغريب، وكانت تتمحور في إطار معارضة وجود القوات الأميركية بالعراق.
لكن بعد سقوط حكم بشار الأسد وتغير الوضع في سوريا، شهدت خطابات قيس الخزعلي وشعاراته تراجعاً كبيراً، وتحولت فوهة ماكنته الإعلامية باتجاه فصائل سورية مثل "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع، ومجموعات أخرى تعتبر تركية لكنها في الأساس جماعات سورية سنية المذهب.
هنا نستشهد ببعض التصريحات السابقة التي تعكس تحولاً بمسار خطاب قيس الخزعلي وفصائل "المقاومة" بشكل عام، من المطالبة بخروج المحتل الأميركي من العراق إلى مواجهة الفصائل المسلحة في سوريا، كمدخل لفهم هذا التراجع الكبير في خطاب فصائل المقاومة بالعراق والتغير الحاصل في استراتيجيتها، والإجابة عن السؤال: لماذا لا يتحدث أحد الآن عن انسحاب قوات الاحتلال؟!.
في عام 2018، وفي خطاب شهير، قال أمين عام عصائب أهل الحق قيس الخزعلي: "إن وجود القوات الأميركية في العراق هو احتلال جديد، ولن نسمح ببقائهم مهما كلف الثمن، وسنقاومهم كما قاومناهم من قبل".
وفي كانون الثاني 2020، عقب مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والقيادي في الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، رفع الخزعلي وتيرة خطابه ضد المحتلين، وقال: "إن القوات الأميركية هدف مشروع للمقاومة، ولن يهنأ لهم عيش على أرض العراق".
لكن بعد سقوط بشار الأسد ومع التغيّرات التي طرأت على المنطقة، تراجع هذا الخطاب المعادي لأميركا في العراق كثيراً، بشكل لم نعد نسمع بأي شكل من الأشكال شيئاً من تهديدات التدمير والطرد، بل يكاد يُمحى اسم أميركا من قاموس خطاب "المقاومة" العراقية. وبدلاً من ذلك، اتجه جزء من خطابات هذه الجماعات إلى الحديث عن دولة مثل سوريا ومعادات الفصائل السورية المعارضة لبشار الأسد، وهذا يعتبر تدخلاً واضحاً بدولة أخرى، والجميع متفق على أن السوريين أحرار في تحديد مصيرهم ومصير بلدهم ولا يحق لأحد أن يفرض أجندته عليهم أو أن يعاديهم بذلك.
هذا التغيير يبدو واضحاً بشكل خاص في خطاب شخص مثل قيس الخزعلي في عام 2022، وهو مستمر إلى اليوم، فقال الخزعلي في لقاء متلفز مع قناة "العهد" العراقية في آذار 2023، إن "من يقاتل المقاومة الإسلامية في شمال سوريا، ويتحالف مع الأتراك والأميركان، هو خائن لدماء الشهداء وخائن لمحور المقاومة".
وفي تصريح صحفي أدلى به في نيسان 2024، هاجم الخزعلي "هيئة تحرير الشام" بشكل صريح، بقوله: "هيئة تحرير الشام تحولت إلى أداة بيد أجهزة مخابرات معادية، ولا تختلف في عدائها عن الأميركان، بل باتت أخطر لأنها تتستر بغطاء إسلامي". كما ذكر في كلمة أخرى ألقاها خلال تجمع جماهيري لموالي الحشد الشعبي "لا يغرنكم الحديث عن مقاومة تركية مزعومة.. كثير ممن يدعون الجهاد في شمال سوريا هم مجرد أدوات لخدمة الاحتلال الجديد عبر تركيا".
تشير هذه التصريحات إلى التراجع الكبير في خطاب جبهة "المقاومة" في العراق، والتحوّل من مواجهة الاحتلال في العراق، كما يقولون، إلى معادات بعض الجماعات المسلحة خارج حدود البلد. وتشير أيضاً إلى أن الخطاب المعادي لأميركا في العراق لم يكن خطاباً وطنياً عراقياً، بل خطاباً مرتبطاً بأجندات خارجية ومعادلات إقليمية.
كما تدلّ تلك التصريحات على ضعف جبهة "المقاومة" بجناحيها الشيعي والسني في المستقبل أكثر، لأنه بدلاً من أن تركز استراتيجيتها على الكيان الصهيوني والوجود الأميركي في المنطقة، أصبحت تهتم بتصفية الحسابات الداخلية، وذلك سيؤدي إلى ضعف هذه الجبهة أكثر فأكثر على الصعيدين السياسي والعسكري كذلك على المستويين الثقافي والوطني.