الذي يتابع الفضائيات العراقية سيرى أنها لم تتخلّ عن الضخ الطائفي كوسيلة لجذب الانتباه، وزيادة المتابعات والمشاهدة، وينبري عدد من الشخصيات للقيام بهذا الدور التحريضي، متنقلين ما بين هذه الفضائية وتلك.
والحقّ يمكن القول إن هذه الشخصيات، التي يجمع كثيرون على أنها ضحلة وتافهة، هي من تؤثر في الرأي العام اليوم، بشكل أكبر مما يمكن أن تقوم به شخصيات أخرى وازنة وأكثر أهميّة وتملك حدّاً أدنى من الشعور بالمسؤولية الوطنية.
إن التيار من المحتوى الاعلامي الذي تساهم هذه الشخصيات التحريضية في صنعه، لا ينطلق من متبنياتها الشخصية، وانما خدمة لأجندة رعاة سياسيين، يموّلون هذه الشخصيات ويوجّهونها ذات اليمين والشمال، حسب تحوّلات اللعبة السياسية.
قد يكون التصعيد خلال الأشهر القليلة الماضية، منذ بداية هذه السنة تحديداً، باتجاه الحديث عن مشاريع انفصال أو تقسيم بناءً على خلفيات طائفية، له علاقة بالتحضير للانتخابات القادمة في كانون الأول أواخر هذا العام. أو في إطار التنافس على الزعامة داخل الدائرة الطائفة، ومحاولة تصدير الذات أو المشروع السياسي على أنه الممثل "الأصدق" عن مشاغل الطائفة وهمومها. وهذا ما يمكن ملاحظته من حسابات على موقع X تتحدّث باسم السنة، وتدعو الى انشاء إقليم سنّي. ولكن هذه الحسابات تمثّل اتجاهاً غير مشارك في العملية السياسية، ويبدو معارضاً من الخارج للجميع. ولا يمكن تحديد مدى شعبية هذا الخطاب أو تأثيره داخل الدائرة الاجتماعية السنيّة.
أما ما هو أكثر حضوراً وتأثيراً فهو الصوت الانفصالي الشيعي، والذي يتحرّك بحريّة أكبر، ويتجاوز أحياناً أعراف اللياقة، وتأتي حسابات على مواقع التواصل لتوسّع من مدى تأثير هذه الاصوات من خلال اقتطاع المقاطع المثيرة في الحوارات التلفزيونية وتعيد نشرها على مواقع التواصل.
لا تقوم هيئة الاعلام والاتصالات المسؤولة عن الرقابة على المحتوى الاعلامي في العراق بأي شيء تجاه هذه الأصوات ذات التأثير السيء جداً. الأمر الذي يشير الى تجاهل متعمّد من قبل الدولة، إماً لأنها لا تستشعر الخطر منها، أو أنها غير قادرة فعلياً على لجم الأصوات التحريضية التي تسمّم الأجواء العامة بالخطابات العنصرية والطائفية، لأن الجهات السياسية الراعية لهذا الخطاب تسيطر على المؤسسات المعنية بمراقبة خرق الدستور وإثارة البلبلة وتهديد السلم الاجتماعي.
إن الطرف الراعي لخطابات الكراهية والتحريض ربما يجد نفسه أمام تحدٍّ وجودي في الانتخابات البرلمانية القادمة، وأنه غير قادر على تحشيد جمهوره، إلا بهذه الوسيلة. فيعيد حفر الخنادق الطائفية وتجديدها بعد أن ردمتها الاتربة والحشائش خلال السنوات الماضية، بعد نهاية الحرب مع داعش.
ولكن الأخطر؛ هو ما تكشفه هذه الخطابات من تخادم مع مصالح أطراف إيرانية ترى بأن سيطرتها على كامل العراق مهدّدة، وأنها، في فترة ما قادمة، ستضطر الى ترتيب أوراقها في المنطقة، بما يجعل نفوذها في المناطق السنية في العراق متراجعاً، ما ينعش مطامح السنّة الى التحرّر أكثر من هيمنة الجماعات المسلّحة الشيعية، وبالتالي فلن يكون نطاق حركة هذه الجماعات سوى في المناطق الشيعية، التي هي الأخرى لا تدين بالولاء لهذه الجماعات، وتعيش صراعاً سياسياً بين مختلف التيارات السياسية.
إن إغراق الفضاء الاعلامي العراقي بمزيد من خطابات الكراهية ضدّ السنّة، لا يستهدف السنّة بالضرورة وإنما تحشيد الداخل الشيعي واعادة تذكيره بالحدود الفاصلة ما بين المكوّنين الكبيرين في العراق، لتهيئة المزاج العام لمرحلة قادمة، قد يتقسّم فيها العراق فعلياً. وهو أمرٌ مرهون بتطور المفاوضات النووية بين إيران وأميركا، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه إدارة ترامب في "ترضية" إيران مقابل نزع أنيابها.