أكثر من 80 يوماً مرت على تصويت البرلمان على جداول موازنة العراق لعام 2024، إلا أن الجداول ما تزال غائبة عن صفحات جريدة الوقائع الرسمية التابعة لوزارة العدل لتدخل حيز التنفيذ، والسبب في ذلك، وجود 3 نسخ مختلفة لجداول الموازنة، يبدو أنه تم اكتشافها بعد 10 أيام فقط من التصويت على الجداول، إلا أنّ الأمر بقي مخفياً حتى الكشف عنه بعد مرور أكثر من شهر، وتحديداً في 13 تموز الماضي.
ماذا يقصد البرلمان بـ"الجداول المعدلة" بعد تصويته؟
في 3 حزيران/يونيو، صوت مجلس النواب على جداول موازنة 2024، وقال حينها إنه "تمت الموافقة على تقديرات جداول الموازنة العامة لسنة 2024 ومرفقاته وجداول تمويل العجز، ومنح مجلس الوزراء صلاحية مناقلة مبلغ (2) ترليون دينار من تخصيصات الموازنة الاستثمارية للوزارات وإضافتها إلى تخصيصات تنمية الأقاليم للمحافظات غير المنتظمة بإقليم وتوزع حسب النسب السكانية ونسب الفقر في كل محافظة".
وفق صيغة بيان المجلس باستخدام جملة "تمت الموافقة على تقديرات الجداول"، يمكن قراءة البيان بأنه "تمت الموافقة على الجداول كما وردت من مجلس الوزراء"، إلا أن البيان حمل عبارة "تم التصويت على جداول قانون الموازنة العامة الاتحادية رقم (13) لسنة 2024 المعدلة"، ومن غير المعروف ماذا يقصد البرلمان بمفردة "المعدلة"، وهل أنها معدلة من قبل البرلمان بعد ورودها من مجلس الوزراء، أم يقصد المعدلة من مجلس الوزراء مقارنة بجداول موازنة 2023 على اعتبار كونها موازنة ثلاثية؟
"القنبلة تنفجر" بعد مرور 40 يوماً.. 15 تريليون أضيفت "خلسة"
بعد أسبوع فقط من ذلك وتحديداً في 11 حزيران، تناقلت وسائل إعلام محلية تصريحات للمتحدث باسم وزارة العدل أحمد لعيبي، جاء فيها أنّ "وزارة العدل خاطبت مجلس النواب لغرض إرسال جداول الموازنة لنشرها في جريدة الوقائع الرسمية"، وفي نفس الوقت تحدثت مصادر عن أن الجداول تمت إعادتها من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب "لغرض إجراء تدقيق في بعض مواد وفقرات القانون".
وبعد شهر، وتحديداً في 11 تموز، صدرت تصريحات من النائب باقر الساعدي، قال فيها إنّ هناك بعض الملاحظات البسيطة على الموازنة لذلك تمت إعادتها إلى البرلمان، وسيتم إجراء التعديلات عليها من لجنة مختصة بعد العاشر من محرم وترسل إلى مجلس الوزراء مجدداً.
ليأتي بعد ذلك، وعقب يومين فقط وتحديداً في 13 تموز، أول كشف رسمي عن وجود تلاعب بجداول الموازنة، وعلى لسان عضو اللجنة المالية النيابية معين الكاظمي، الذي أكد ان الموازنة عادت إلى مجلس النواب لإجراء بعض التعديلات، بعد أن اكتشف مجلس الوزراء وجود اختلاف بنسخة الموازنة المرسلة من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء، بالرغم من أن مجلس النواب صوت على الجداول كما وردت من مجلس الوزراء دون تعديل، مشيراً إلى أن الاختلاف رفع الموازنة من 211 تريليون دينار إلى 226 تريليون دينار.
ويتضح من تصريح الكاظمي، أنه تمت إضافة 15 تريليون دينار على جدول نفقات الموازنة، غير أنه من غير المعروف على أي أبواب تمت إضافة هذه المبالغ، التي ترفع حجم النفقات بنسبة تبلغ 7%.
لكن معلومات متسربة تشير إلى أن الإضافات تضمنت زيادة مبلغ البطاقة التموينية 5 ترليون دينار إضافية، وزيادات مالية لوزارة الكهرباء وبعض المحافظات.
نسخة حكومية أصلية.. ونسختان برلمانياتان
في هذه الأثناء، لم تكن الحكومة تلتزم الصمت تماماً، إلا أنها تأخرت بإرسال كتاب استفهامي إلى مجلس النواب حتى مرور قرابة الشهر، فبينما تم التصويت على الموازنة في 3 حزيران، وتم إرسال الموازنة إلى مجلس الوزراء في 10 حزيران، أرسل مكتب السوداني في 1 تموز كتاباً استفهامياً إلى مجلس النواب، غير أن هذا الكتاب لم يتسرب للإعلام حتى 20 تموز.
وتضمن الكتاب أن قرار مجلس النواب يقول إنه تم التصويت على جداول الموازنة كما وردت من الحكومة، لكن النسخة الورقية المرفقة مع كتاب مجلس النواب الذي أكد "التصويت على الجداول كما وردت"، تختلف عن الجداول التي أرسلت بالفعل من الحكومة إلى مجلس النواب، كما أن النسخة الالكترونية الموجودة في القرص المدمج تختلف هي الأخرى عن نسخة الحكومة وعن النسخة الورقية المرسلة من مجلس النواب.
وفقاً لذلك، هذا يعني وجود نسخة حكومية لجداول الموازنة من المفترض أن البرلمان صوت عليها كما هي، فضلاً عن وجود نسختين "ورقية والكترونية" واردة من البرلمان، كلاهما يختلفان عن النسخة الأصلية للحكومة والتي من المفترض أن البرلمان صوت عليها كما هي.
التسريب.. وسيلة ضغط للإجابة المتأخرة؟
في اليوم التالي لتسرب وثيقة مخاطبة الحكومة لرئاسة البرلمان، وتحديداً في 21 تموز، أرسل رئيس مجلس النواب إجابة إلى الحكومة، بالرغم من أن كتاب الاستفهام صادر من الحكومة في 1 تموز، ويبدو أن رئاسة البرلمان لم تجب طوال هذه الفترة، ما يطرح احتمالاً أن الحكومة تعمدت تسريب الكتاب بعد 20 يوماً للضغط على رئاسة البرلمان لغرض الإجابة المتأخرة.
وجاء في كتاب إجابة رئاسة البرلمان تأكيداً على أن الجداول المرسلة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي ذاتها المرسلة من الحكومة، بعد الموافقة على الجداول كما وردت من الحكومة دون أي تغيير.
تصويب نحو 4 نواب.. وبعدها المندلاوي
بقي الحديث منذ 20 تموز وحتى الآن، عن قصة التلاعب بجداول الموازنة، يظهر ويخفت بين الحين والآخر، واتهمت بعض الصفحات النائب مصطفى سند وعدي عواد ومحمد نوري بالتلاعب في الجداول، بالمقابل رد سند على ذلك بنفي تدخله بهذا الشأن، مشيراً إلى أن ما حدث هو أن بعض النواب ربما كتبوا "جداول خاصة بهم وأجروا مناقلات بإضافة أموال إلى محافظاتهم أو أبواب أخرى كاقتراحات"، لكن قرار رئيس البرلمان كان التصويت على الجداول كما وردت من الحكومة وهذا يغلق الباب على أية إضافات أخرى من النواب، معتبراً أنّ "الأمر لا أثر له والحكومة ضخمت القضية".
بالمقابل، اعتبر النائب باسم خشان ان ثبات التلاعب بالموازنة قد ينهي عضوية رئيس البرلمان بالإنابة محسن المندلاوي عبر تقديم دعوى أمام المحكمة الاتحادية العليا، كونه هو من وقع على قرار تصويت البرلمان والجداول المرسلة للحكومة.
في غضون ذلك، تحدثت النائبة سروة عبد الواحد عن اختلاف بجداول الموازنة قيمته 8 تريليون دينار، وهذا الرقم يخالف ما كشف عنه في بادئ الأمر عضو اللجنة المالية معين الكاظمي، إلا انه قد يكون هو رقم الاختلاف في النسخة الورقية أو الالكترونية، والرقم الآخر البالغ 15 تريليون هو في إحدى النسختين أيضاً، حيث يوجد 3 نسخ كما أكد مكتب رئيس الوزراء في كتابه المرسل إلى البرلمان.
استمرار الحديث عن "التلاعب بجداول الموازنة"، وورد اسم المندلاوي في القصة، دفع الأخير لإصدار بيان عبر الموقع الرسمي لمجلس النواب، وعاد للتأكيد على أن الجداول تم التصويت عليها كما وردت من الحكومة، فيما حمل البيان غضباً واضحاً، شدد من خلاله على أنه "متابع لكافة ما ينشر ويبث من أحاديث غير دقيقة من بعض وسائل الإعلام"، مهدداً بأنه "ستتعرض للمساءلة القانونية أي جهة تحاول تضليل الرأي العام من خلال إخفاء الحقائق والنقل غير الأمين للوقائع، لتحقيق مآرب غير مشروعة بعيداً عن أمانة النقل الحيادي والموضوعية التي ينبغي أن تتحلى بها".
النسخ الثلاث.. مرحلة ولادة التوائم غير المتطابقة
توفر وزارة المالية جداول الموازنة الأصلية التي أرسلتها الحكومة لمجلس النواب والتي تم التصويت عليها، والتي تبلغ 211 تريليون دينار، في حين لا توجد نسخة منشورة أو معلنة للنسخ الأخرى المعدلة التي تتضمن إضافة 15 أو 8 تريليونات دينار لغرض المطابقة بين الجداول، لكن الحديث كله يدور حول إضافة الأموال إلى تخصيصات البطاقة التموينية، فضلًا عن زيادة تخصيصات بعض المحافظات ولاسيما تلك التي اعترضت على تخفيض حصصها في الموازنة وعلى رأسها محافظة البصرة.
لكن في الخلاصة، ومن الناحية الواقعية، لا قيمة للاختلاف في جداول الموازنة بعد أن عمدت الحكومة إلى نشر واعتماد جداول الموازنة المرسلة من قبلها وفق التخصيصات المحددة من قبلها، وبإجمالي إنفاق يبلغ 211.8 تريليون دينار، بالرغم من أن جريدة الوقائع لم تنشر حتى الآن جداول الموازنة لعام 2024.
وتشير التفسيرات في الخلاصة، إلى أن نواباً يبدو أنهم "حاولوا خداع الحكومة"، بتضمين أوراقهم التي قاموا بالتعديل عليها لغرض تخصيص أموال أكبر لمحافظاتهم أو "وزاراتهم"، باستخدام مراحلة ومحطات مرور الموازنة في البرلمان بعد التصويت، فمن استطاع الوصول إلى النسخة التي كانت معدّة للإرسال إلى مجلس الوزراء بصيغتها الورقية، استبدل جدولًا يتعلق بالنفقات الحاكمة على سبيل المثال لغرض رفع حصة موازنة التموينية، أما الآخر؛ فأدرج ورقته الخاصة بعد تعديل الأرقام التي تتضمن زيادة حصص محافظات معينة، أما من لم يستطع الوصول إلى النسخة الورقية، فإنه تمكن من الولوج إلى القسم الالكتروني في مجلس النواب بعلاقاته أو بطريقة أخرى، لغرض تغيير أرقام معينة في جدول الموازنة بجهاز الحاسوب قبل أن يتم وضعها على قرص مدمج، وعلى ما يبدو أن كل نائب ربما لا يدري بما فعل زميله، لكي ترسل إلى الحكومة ومحاولة خداعها، لتصرف الأموال وفق الجداول التي وردتها، ومن غير المعلوم ما هي الخطة بعد ذلك، هل تنوي لرفع التخصيصات للمحافظات أو الوزارات المعنية لغرض تمكينها، أم تهدف إلى أخذ وتقاسم فائض الأموال التي قد ترسل إلى المحافظات والوزارات وفق الجداول المتلاعب بها، ومنح المحافظة أو الوزارة فقط الأموال التي كانت تخطط الحكومة لتخصيصها إلى هذه المحافظة أو تلك الوزارة.