المليارات نائمة خلف الجدران.. لماذا يلجأ العراقيون لاكتناز أموالهم في المنازل بدل المصارف؟

12 قراءة دقيقة
المليارات نائمة خلف الجدران.. لماذا يلجأ العراقيون لاكتناز أموالهم في المنازل بدل المصارف؟

80 مليار دولار في منازل العراقيين

في إحدى زوايا المنازل، وبين جدرانه تُخبأ الأموال، لا في حسابات بنكية أو محافظ استثمارية، بل تحت الأرائك، داخل خزائن سرية، وفي أكياس بلاستيكية مدفونة بين الملابس القديمة، ملايين بل مليارات من الدنانير يخيفها العراقيون في منازلهم.

 

والعراقيون لم يعودوا يجدوا في البنوك ملاذاً آمناً لأموالهم، بل عبئاً من الإجراءات، ومصدر قلق دائم بسبب تأخر التحويلات، وانعدام الثقة، وتآكل قيمة العملة، في ظاهرة تزداد اتساعاً وسط أزمة سيولة تخنق اقتصاد البلاد، وتطرح تساؤلات خطيرة عن مستقبل النظام المالي في العراق.


وتواجه الحكومة العراقية تحديات كبيرة تكمن في إدارة السيولة النقدية بالدينار، حيث تعاني من نقص مزمن في هذه العملة، مما يؤثر على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية لدفع رواتب الموظفين وتسديد الديون وتمويل المشاريع.

 

مواطنون يشكون القطاع المصرفي في العراق

 

وعبّر عدد من المواطنين في بغداد ومحافظات أخرى عن مخاوفهم المتزايدة من التعامل مع القطاع المصرفي، بسبب ما وصفوه بانعدام الثقة بالمصارف العامة والخاصة، وتأخر الإجراءات، وضعف الخدمات، فضلاً عن مخاوف تتعلق بفقدان الأموال أو صعوبة استرجاعها في حالات الطوارئ.

 

ويقول أبو مصطفى، صاحب الـ 55 عاماً، في حديث لمنصة "الجبال"، إنّ "منذ سنوات وأنا أحتفظ بأموالي في المنزل، لا أثق بالمصارف، سمعنا كثيراً عن حالات ضاعت فيها أموال الناس أو تأخرت المعاملات لأشهر، وهذا الشيء يخوّفنا".

 

وفيما أكدت "أم فاطمة"، وهي موظفة متقاعدة، أنها "تفضّل حفظ مدخراتها في خزنة داخل بيتها بدلاً من وضعها في حساب مصرفي"، مضيفةً "لا أشعر بالأمان، خاصة مع الأخبار عن مصارف تفلس أو تتعرض لمشاكل إدارية. نريد ضمانات حقيقية من الدولة".

 

وفي سوق الشورجة، يتحدّث أبو عمار، وهو تاجر مواد غذائية، قائلاً إنّ "كل شغلي (كاش)، كون لا يوجد ثقة بالتحويلات الإلكترونية عبر المصارف، فضلاً عن وجود إجراءات روتينية قاتلة لذلك المخاطر عديدة".

 

من جانبها، قالت "أم حسين"، وهي موظفة من منطقة الشعب شمالي العاصمة بغداد، إن "جميع أموالها بالبيت، فهي تشتري الذهب أو تحتفظ بيها بالدولار، البنوك هناك تخوف منها كونها غير واضحة خصوصاً بالمصارف الأهلية".

 

وبحسب خبراء اقتصاديين، فإن هذه المخاوف تُسهم في تفاقم ظاهرة "اكتناز الأموال" خارج الدورة المصرفية الرسمية، ما يُضعف الاقتصاد ويقلل من فرص الاستثمار والإقراض.

 

وفي (16 شباط 2025)، كشفت وكالة "رويترز" عن عزم البنك المركزي العراقي اتخاذ إجراءات صارمة ضد خمسة مصارف أهلية عبر منعها من إجراء المعاملات بالدولار الأميركي، وذلك في إطار الجهود المشتركة مع وزارة الخزانة الأميركية لمكافحة غسل الأموال، وتهريب الدولار، والانتهاكات المالية.

 

وتأتي هذه التطورات بعد سلسلة من الإجراءات الأميركية السابقة بحق القطاع المصرفي العراقي، ففي 19 تموز 2023، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على 14 مصرفاً عراقياً بسبب شبهات تتعلق بتسهيل عمليات مرتبطة بإيران عبر الدولار الأميركي، في خطوة وُصفت حينها بأنها جزء من حملة أوسع لمكافحة الانتهاكات المالية الإقليمية.

 

كما كانت وزارة الخزانة الأميركية، بالتعاون مع البنك المركزي العراقي، قد منعت في كانون الثاني 2023 أربعة بنوك عراقية أخرى من التعامل بالدولار، وفرضت ضوابط مشددة على التحويلات المالية في العراق، الأمر الذي أثر سلباً على أداء القطاع المصرفي المحلي وزاد من القيود على حركة الدولار في الأسواق العراقية.

 

95 تريليون دينار خارج النظام المصرفي

 

ويحذّر مظهر محمد صالح، مستشار رئيس مجلس الوزراء للشؤون المالية، من استمرار ظاهرة اكتناز الأموال في المنازل، معتبراً في ذات الوقت أنها تمثل تحدياً اقتصادياً كبيراً يعيق تطور النظام المالي والمصرفي في البلاد.

 

ويقول صالح، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "نحو 87% من الكتلة النقدية في العراق، أي ما يعادل 95 تريليون دينار من أصل 109 تريليونات، لا تزال محفوظة خارج النظام المصرفي".

 

ووفقاً لصالح، فإن هذه الأموال المكتنزة تُعد عائقاً أساسياً أمام تطور القطاع المالي وتعزيز الشمول المالي، مبيناً أن الحكومة والبنك المركزي يعملان على دمج هذه الأموال ضمن النظام المصرفي عبر تفعيل التجارة الإلكترونية ومشاريع التحول الرقمي.

 

ويشير صالح، إلى أن "ازدياد استخدام نظم الدفع الإلكتروني من شأنه تقليل نسبة التسرب النقدي خارج المصارف، وزيادة قدرة البنوك على الإقراض بكلف أقل وكفاءة أعلى، مستفيدين من الفوائد المنخفضة التي يمكن تقديمها للمواطنين".

 

وفي ختام حديثه، يتابع صالح، قائلاً إن "مواجهة ظاهرة الاكتناز تتطلب تغييراً في الثقافة المالية للمجتمع، وتوسيع مظلة الشمول المالي عبر إجراءات حكومية متكاملة لتشجيع المواطنين على التعامل مع المصارف، واستثمار أموالهم بشكل آمن وفعّال".

 

ودعا البنك المركزي العراقي، وفي العام 2020، المواطنين إلى "عدم كنز الأموال في المنازل"، والتعامل مع المصارف وشركات الوساطة المالية أثناء التبادلات النقدية الكبيرة، محذراً في ذاك الوقت، من دور الأوراق المالية في نقل الفيروسات والبكتيريا، بما فيها كورونا.

 

"ظاهرة الاكتناز".. سلوك يلتصق بالعراقيين

 

في المقابل، يقول الخبير الاقتصادي نبيل التميمي، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "ظاهرة اكتناز الأموال في المنازل ليست مجرد سلوك طارئ في المجتمع العراقي، بل تمثل جزءاً أصيلاً من الثقافة المالية المحلية التي لم تواكب بعد تطورات العالم المعاصر في استخدام المصارف وأدوات الدفع الحديثة كوسائل للتعاملات المالية".

 

ويوضح التميمي، أن "هذه الظاهرة ترتبط بعدم ثقة شريحة واسعة من المواطنين بالمصارف، سواء كانت مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص، نتيجة غياب الدور الجاذب الذي يفترض أن تلعبه المؤسسات المالية والمصرفية، بما في ذلك العروض البنكية كالحسابات الجارية والثابتة، والتسهيلات الائتمانية، وضمان الأمان المصرفي، والحصول على الفوائد والخدمات المرتبطة بالتعامل المصرفي الحديث".

 

وبحسب حديث التميمي، فإن البيئة القانونية الراهنة لا تساعد بدورها في جذب الأموال إلى النظام المصرفي، مشيراً إلى أن بعض القوانين، خصوصاً تلك المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، قد أصبحت عقبة أمام المودعين.

 

كما أن تطبيق إجراءات "اعرف عميلك" (KYC) التي تطالب كل مودع بالكشف الكامل عن مصادر أمواله وشرعيتها، تصطدم بواقع مالي واجتماعي مختلف، والكلام للتميمي، الذي تابع حديثه قائلاً "حيث يصعب على كثير من أصحاب الأموال رغم افتراض شرعية أموالهم تقديم توثيقات واضحة، خاصة إن كانت تلك الأموال قد جُمعت عبر نشاطات تجارية بسيطة، أو على مدى فترات طويلة دون سجلات رسمية".

 

ويشير التميمي، إلى أن "هذه العوامل مجتمعة تُبقي الأموال خارج النظام المصرفي، ما يُفقد الاقتصاد العراقي فرصة استثمار مليارات الدنانير المتكدسة في البيوت، ويضعف من فاعلية النظام المالي وقدرته على النمو والتطور".

 

وبحسب آخر تقرير صادر عن "منظمة الشفافية الدولية" فقد حل العراق في المرتبة 154 عالمياً من بين 180 دولة من حيث الفساد، محققاً تقدماً مقداره ثلاث مراتب عما كان عليه في العام الماضي.

 

80 مليار دولار مكتنزة داخل المنازل

 

ويتحدث محمد النجار، الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية والمستشار الخاص لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الاستثمار، عن وجود ما يقارب 80 مليار دولار مكتنزة داخل منازل العراقيين، خارج الدورة الاقتصادية ما يعكس أزمة ثقة متفاقمة بالمصارف والمؤسسات المالية، ويهدد بتعطيل جهود التنمية والاستثمار في البلاد.

 

ويقول النجار، إن هذا الرقم "فلكي"، ويمثل ثروة معطّلة لا تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد، مضيفاً أن "الشعب العراقي يفضل إبقاء أمواله قريبة منه، لأنه لا يعرف متى سيضطر إلى أخذها والهرب"، في إشارة إلى الاضطرابات المستمرة منذ أكثر من أربعة عقود.

 

ويرى النجار خلال حديثه الصحفي، أن "المشكلة لا تتعلق فقط بانعدام الثقة، بل أيضا بانعدام فرص الاستثمار المجدي"، مستطرداً بالقول "لا توجد بورصة فاعلة، ولا أسواق ثانوية حقيقية، ما يعني أن من يملك 5,000 أو 10,000 دولار، لا يجد وسيلة لاستثمارها".

 

كما يدعو النجار، إلى ضرورة بناء الثقة مجدداً بين المواطن والمؤسسات المالية، وإطلاق أدوات استثمارية جديدة تكون مرنة وآمنة، قادرة على استقطاب الأموال المكتنزة، وإدخالها إلى الدورة الاقتصادية، بما يُسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير فرص العمل.

 

سبق وأن كشف الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، عن احتلال العراق المرتبة الأولى في الشرق الأوسط من حيث عدد المصارف الأهلية، مشيراً إلى أن نسبة هذه المصارف إلى إجمالي عدد المصارف في البلاد بلغت 91%، وهي الأعلى في المنطقة.

 

ووفقاً لتدوينة سابقة للمرسومي، فإن العدد الكلي للمصارف في العراق يبلغ 81 مصرفاً، منها 7 مصارف حكومية فقط، فيما يبلغ عدد المصارف الأهلية 74 مصرفاً، أي ما نسبته 91% من إجمالي القطاع المصرفي.

 

وأوضح أن هذه النسبة تُعد الأعلى مقارنة بدول الشرق الأوسط، إذ يبلغ عدد المصارف في تركيا 43 مصرفاً، ومصر 41، والسعودية 31، وإيران 30، والأردن 26، والجزائر 20 مصرفاً، مشيراً إلى أن حتى دولة كبرى مثل بريطانيا لا تضم سوى 54 مصرفاً.

 

أسباب وحلول للقضاء على "ظاهرة الاكتناز"

 

إلى ذلك، يحذر المتخصص في الشؤون المالية جليل اللامي، من تفاقم ظاهرة اكتناز الأموال في المنازل بدلاً من إيداعها في المصارف، معتبراً أنها تمثل إحدى أبرز المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه بعض الدول، وخصوصاً الدول التي تمر بأزمات اقتصادية أو تعاني من ضعف الثقة في المؤسسات المالية.

 

وفي حديث لمنصة "الجبال"، يقول اللامي، إن "هذه الظاهرة باتت ملموسة بشكل واضح في العراق، حيث تشير التقديرات إلى أن الكتلة النقدية المتداولة خارج النظام المصرفي تجاوزت 100 تريليون دينار عراقي، أي ما يعادل نحو 65% من إجمالي الكتلة النقدية، ما يشكّل تحدياً كبيراً أمام خطط التنمية وتفعيل أدوات السياسة النقدية".

 

ويشير اللامي، إلى أن "من أبرز أسباب لجوء المواطنين إلى اكتناز الأموال في المنازل هو فقدان الثقة بالمصارف، وذلك نتيجة تجارب سابقة في انهيار بعض المصارف أو إفلاسها، أو بسبب التأخر في تسليم الأموال للمودعين خلال الأزمات، فضلاً عن شعور المواطنين بأن أموالهم غير محمية بما يكفي".

 

كما لعب سوء الوضع الاقتصادي والسياسي دوراً رئيساً، بحسب اللامي، إذ أن ارتفاع معدلات التضخم، وغياب الاستقرار السياسي والأمني، والخوف من تجميد أو مصادرة الحسابات المصرفية، كلها عوامل دفعت المواطنين إلى الاحتفاظ بأموالهم نقدًا داخل منازلهم، مبيناً أن نقص الثقافة المصرفية، خاصة في الأرياف والمناطق النائية، حيث يعتمد الناس على التعامل النقدي ويجهلون فوائد الادخار وآليات عمل المصارف، ساهم في تفشي الظاهرة، إضافة إلى ضعف الشمول المالي نتيجة قلة الفروع المصرفية وصعوبة الوصول إلى خدمات مصرفية ملائمة.

 

ولم يغفل اللامي الحديث عن تأثير الفساد والتهرب الضريبي، إذ يلجأ بعض التجار والمواطنين لإخفاء أموالهم عن الجهات الرقابية عبر الاحتفاظ بها بعيدًا عن النظام المصرفي الرسمي.

 

ووفقاً لحديث اللامي، فإن هذه الظاهرة تحرم الاقتصاد من السيولة اللازمة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كما تُعقّد عمليات الإقراض والاستثمار، وتُعزز من تداول النقد خارج القطاع الرسمي، مما يصعب ضبط الدورة المالية ويزيد من حجم الاقتصاد غير الرسمي.

 

ويضيف الخبير العراقي، أن اكتناز الأموال في المنازل يرفع من مخاطر فقدانها بسبب التعرض للسرقة أو الحريق أو التلف، كما أنه يُضعف أدوات السياسة النقدية، حيث يصعب على البنك المركزي التحكم بالكتلة النقدية وتوجيه الاقتصاد نحو النمو والاستقرار.

 

ويقترح اللامي، جملة من الحلول لمعالجة هذه الظاهرة، تبدأ بـ تعزيز الثقة في القطاع المصرفي من خلال ضمان حماية الودائع وتوفير الشفافية في التعاملات المصرفية، إلى جانب تحسين الثقافة المالية لدى المواطنين عبر برامج توعية متواصلة.

 

كما يشدد على ضرورة تقديم أدوات تحفيزية مثل فوائد مغرية على الودائع، وإطلاق برامج تشجيعية لإيداع الأموال في المصارف، إلى جانب الرقابة على الاقتصاد الموازي عبر تقنين المعاملات النقدية الكبيرة، وتعزيز الدفع الإلكتروني وتقييد الدفع النقدي.

 

ويختم اللامي، حديثه بالتأكيد على أن معالجة هذه الظاهرة تتطلب تكاملًا بين الجهات الحكومية، والمصارف، والمؤسسات الإعلامية والتعليمية، لتحقيق تحول حقيقي في الثقافة الاقتصادية لدى المجتمع العراقي.

 

وآخر احصائية لرابطة المصارف الخاصة، اليوم السبت، عن إعداد الحسابات المصرفية في العراق وتطورات النظام المصرفي في البلاد خلال العام الماضي 2024.


ووفقاً لرئيس الرابطة وديع الحنظل، فإن عدد البطاقات المصرفية وصل إلى 20 مليون بطاقة خلال العام 2023، مشيراً إلى أن عدد الحسابات المصرفية في 2020، بلغت 6 ملايين وفي 2023 لـ 13 مليون حساب.

رامي الصالحي صحفي

نُشرت في الثلاثاء 8 أبريل 2025 03:45 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.