أسعار فلكية تدفع في أكثر الأماكن صعوبة للعيش.. لماذا تحولت بغداد إلى أغلى مدن العالم؟

9 قراءة دقيقة
أسعار فلكية تدفع في أكثر الأماكن صعوبة للعيش.. لماذا تحولت بغداد إلى أغلى مدن العالم؟ أحد أحياء مدينة الصدر في العاصمة بغداد - AFP

رغم التراجع الواضح في مستوى الخدمات الأساسية، من بنى تحتية مهترئة إلى نظام صحي متدهور وبيئة تعاني من الإهمال، تتصدر بغداد قائمة المدن ذات التكاليف المعيشية المرتفعة، متجاوزةً في أسعار عقاراتها وإيجاراتها وحتى تكاليف المعيشة اليومية بعضاً من أفضل مدن العالم من حيث جودة الحياة.

 

المفارقة الصادمة هنا هي أن المواطن البغدادي يدفع أسعاراً توازي ما يُدفع في عواصم مزدهرة مثل دبي أو إسطنبول أو حتى لندن، لكنه بالمقابل يحصل على خدمات لا ترقى إلى الحد الأدنى من المعايير العالمية.

 

وحل العراق في مرتبة متوسطة نسبياً بكلفة المعيشة عالمياً، وفق احصائيات تكلفة المعيشة لعام 2024، والتي جاء العراق فيها في المرتبة 85 من أصل 132 دولة بالغلاء وتكلفة المعيشة لعام 2024، فيما جاء بالمرتبة الثامنة عربياً بالغلاء بعد كل من قطر، الامارات، لبنان، البحرين، الأردن، الكويت، السعودية.

 

أما بشأن كلفة الإيجار، جاء العراق بالمرتبة 81 عالمياً، فيما جاء بالمرتبة 89 عالمياً بتكلفة البقالة، وبالمرتبة 75 بأسعار المطاعم، وجاء بالمرتبة 68 عالمياً بالقوة الشرائية. 


الأسعار تحلّق والخدمات غائبة

 

ويشكو مواطنون في بغداد من الارتفاع الحاد في تكاليف المعيشة، وسط تزايد أسعار العقارات والمواد الغذائية والخدمات الأساسية، في وقت تشهد فيه البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية تراجعاً مستمراً، ما يجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة بالنسبة لشريحة واسعة من السكان.

 

وفي هذا الصدد، يقول علي حسن وهو موظف حكومي يبلغ من العمر 38 عاماً، خلال حديثه لمنصة "الجبال"، إن "أسعار الإيجارات ارتفعت بشكل جنوني، أصبحنا ندفع مبالغ توازي ما يُدفع في دول متقدمة، لكننا لا نحصل على الحد الأدنى من الخدمات"، مستطرداً بالقول "راتبي لا يكفي حتى لتغطية احتياجات عائلتي لأسبوع واحد، ولا يوجد أي تحرك حكومي لضبط الأسعار أو تحسين الأوضاع".

 

أما أم أحمد وهي ربة منزل وتبلغ من العمر 45 عاماً، فتقول بغضب: "كل يوم نخرج إلى السوق نجد الأسعار قد ارتفعت، حتى الخضراوات ارتفعت بشكل جنوني، وأسعار اللحوم أصبحت ترفاً لا نستطيع تحمله، حتى الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والصحة تزداد سوءاً، بينما تتضاعف التكاليف علينا".

 

من جانبه، يوضح كرار الساعدي وهو شاب في الثلاثينيات من العمر، لمنصة "الجبال"، أنه اضطر للتخلي عن فكرة شراء منزل في بغداد بسبب الأسعار الباهظة، قائلاً "كنت أجمع المال لشراء منزل صغير، لكن الأسعار تضاعفت بشكل غير منطقي، الشقق التي كانت تُباع بـ 100 مليون دينار قبل سنوات أصبحت اليوم بـ 300 مليون وأكثر".

 

ويؤكد المواطنون، أن "الحكومة مطالبة بوضع حلول عاجلة للحد من هذا الغلاء غير المبرر، سواء من خلال ضبط الأسواق، أو تحسين الرواتب، أو توفير بدائل سكنية ميسورة التكلفة".

 

وتشهد العاصمة العراقية بغداد ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار العقارات، حيث بات امتلاك منزل أو حتى استئجار شقة حلماً بعيد المنال لكثير من المواطنين، في ظل تضاعف الأسعار مقارنة بمستوى الخدمات المقدمة.

 

فعلى الرغم من وصول أسعار العقارات في بعض المناطق إلى أرقام تنافس المدن العالمية، إلا أن الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والصرف الصحي ما زالت تعاني من الإهمال والتدهور، وآخرها ما حدث بعد غرق أغلب المناطق في العاصمة بغداد نتيجة لهطول أمطار غزيرة لساعات.

 

ويرى خبراء الاقتصاد أن هذه الفجوة بين الأسعار المرتفعة والبنية التحتية المتردية تعكس اضطراباً في سوق العقارات، مدفوعاً بالمضاربات المالية وغياب التخطيط العمراني الفعّال.

 

وفي غضون ذلك، توقع موقع "Statista" الألماني، المتخصص في بيانات السوق والمستهلكين، أن يصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العراق إلى 6 آلاف دولار سنوياً خلال العام 2025.

 

وبحسب جدول نشره الموقع فإن نصيب الفرد العراقي سيستمر في الارتفاع بين عامي 2025 و2029 بمقدار 971 دولاراً، أي بنسبة 13.93%، ليصل في عام 2029 إلى 6971 دولاراً، فيما أشار إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي سجل أعلى مستوى خلال العقد الماضي في عام 2022، حيث بلغ 6818 دولاراً، بينما كان الأدنى في عام 2014 عند 4656 دولاراً.

 

أسباب الغلاء في العراق

 

ويقول الخبير في الشأن الاقتصادي، نبيل التميمي، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "هناك عدة أسباب رئيسية تقف وراء هذا الارتفاع، من أبرزها قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، ومدى قدرة الاقتصاد العراقي على الإنتاج، إذ يعتمد بشكل كبير على الاستيراد بدلاً من الاكتفاء الذاتي والتصدير".

 

ويضيف التميمي أن "كلف الإنتاج، سواء الرأسمالية أو التشغيلية، تلعب دوراً أساسياً في تحديد الأسعار، بالإضافة إلى مدى وفرة القوى العاملة ورأس المال البشري، سواء المحترف أو غير المحترف. كما أن الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة، والضرائب المفروضة على الإنتاج المحلي والتجارة الداخلية، تؤثر على حركة السوق وتكاليف السلع والخدمات".

 

ووفقاً للتميمي، فإن "حجم الدعم الحكومي للسلع والخدمات، وأسعار الوقود، والبيئة الاستثمارية والإنتاجية في البلاد، إلى جانب كفاءة البنى التحتية والبيئة القانونية للتجارة، تعد من العوامل الحاسمة التي تحدد شكل الاقتصاد المحلي ومدى استقراره".

 

ويشير التميمي، إلى أن "الاقتصاد العراقي يواجه ظروفاً غير طبيعية، مع تغيرات مستمرة في هذه المؤشرات، ما يسهم في ارتفاع كلف المعيشة مقارنة بالمدن الأخرى في المنطقة".

 

يُذكر أن العراق يعاني من تحديات اقتصادية متزايدة، مما يستدعي اتخاذ إجراءات فاعلة لتحسين بيئة الاستثمار وتعزيز الإنتاج المحلي، للحد من تأثير العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتكاليف الحياة اليومية.

 

"شبكة المستشارين الميدانيين"، من جانبها، قدرت العاصمة بغداد في العام 2022، بأنها الأعلى بين المحافظات الأخرى من ناحية تكلفة معيشة الفرد الواحد فيها، في حين جاءت بالمركز التاسع عربياً، مؤكدة أن بغداد احتلت المركز الأول بين المحافظات الأخرى بالنسبة لكلفة معيشة الفرد الواحد والتي تبلغ 675 ألف دينار في الشهر الواحد الذي لا يعيش ضمن الأسرة.

 

وتضيف الشبكة، أن كلفة المعيشة في العاصمة بغداد هي أعلى من دمشق التي تعتبر أقل كلفة للعيش في الوطن العربي، بينما تحتل الدوحة الأعلى كلفة للعيش تليها دبي في المركز الثاني عربياً ودول الخليج وبيروت.

 

ووفقاً لموقع mumbo المتخصص بشؤون الاقتصاد، والذي يعد أكبر قاعدة بيانات لتكاليف المعيشية في العالم، فإن متوسط تكلفة المعيشة في العاصمة العراقية بغداد لأربعة أشخاص يبلغ شهرياً 2.588.054 مليون دينار عراقي.

 

وبحسب التقرير الذي نشر في العام 2023، فإن متوسط الفرد المعيشي في بغداد للشخص الواحد يبلغ شهريا 773.806 ديناراً عراقياً ماعدا بدل الإيجار، مبيناً أن الأسعار المعيشية في أربيل (عاصمة إقليم كوردستان في شمال العراق)، أقل من تكلفة بغداد بنسبة 5.7%، بينما  متوسط الإيجار في بغداد بالمتوسط أعلى بنسبة 9.8% منه في أربيل.

 

التضخم والدولار وأسعار الأسواق

 

وتعتبر العاصمة بغداد، واحدة من أسوأ المدن في العالم من حيث جودة الهواء والتلوث وفقاً لإحصائية عالمية دورية تعتمد على بيانات الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة الفاو ومنظمة العمل الدولية.

 

وحلّ العراق في مراكز متأخرة عربياً وعالمياً ضمن تقرير تحليلي موسّع صدر حديثاً عن "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا" (إسكوا) التابعة للأمم المتحدة، تحت عنوان "الأحجام الحقيقية لاقتصادات الدول العربية بين عاميّ 2017 و 2023.

 

ووفقاً للتقرير، فقد جاء العراق في المرتبة 12 عربياً من أصل 20 دولة عربية، والمرتبة 118 عالمياً من بين 173 دولة من حيث مستوى الرفاه المادي للمواطن، حيث بلغ متوسط الإنفاق الفعلي للفرد خلال الفترة المذكورة نحو 6,461 دولاراً سنوياً.

 

وفي حديث لمنصة "الجبال"، أشار مصدر حكومي عراقي في وزارة التخطيط، إلى أن "معدل التضخم السنوي في البلاد شهد انخفاضاً ملحوظاً، حيث تراجع من 4% خلال الربع الرابع من عام 2023 إلى 2.8% في الربع الرابع من عام 2024، كما سجل التضخم الأساسي انخفاضاً من 4.5% إلى 2.5% خلال الفترة ذاتها".

 

ويضيف المصدر الذي اشترط عدم الكشف عن نفسه، أن "أسعار السلع لا تزال تتأثر بتذبذب أسعار الدولار، وهو عامل رئيس ينعكس على الأسواق العراقية، في ظل التقلبات التي يشهدها الاقتصاد المحلي خلال السنوات الثلاث الماضية".

 

ويشير المصدر إلى أن "أسعار العقارات ترتبط بعوامل أخرى، مثل قضايا غسيل الأموال والزيادة السكانية، مما يجعلها أقل تأثراً بمعدلات التضخم العامة، لكنها تبقى ضمن دائرة التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد".

 

وجاءت بغداد ضمن أسوأ أماكن العيش والعمل للمغتربين، وذلك بحسب استطلاع شركة الاستشارات العالمية ميرسر (Mercer) لعام 2023 بشأن جودة المعيشة للمغتربين، إلا أن العاصمة حافظت على المراكز المتقدمة كأسوأ المدن الصالحة للعيش في العام 2024.

 

ويكشف تقرير أميركي صدر في العام 2024، أن العراق جاء بالمرتبة قبل الأخيرة في ترتيب الدول بالهواء النقي، فيما حلّت آيسلندا بالمرتبة الأولى، حيث أشارت مجلة "CEO world"، في تقرير إلى تباينات كبيرة في مستويات تلوث الهواء بين البلدان حيث يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم المشكلة.

 

وتملك "تشاد" أسوأ نوعية هواء، إذ سجلت 89.7 ميكروجرام لكل متر مكعب، تلاها العراق بسجيل 80.1  ميكروجرام لكل متر مكعب ثم باكستان، والبحرين، ومن ثم بنغلاديش، على التوالي.

رامي الصالحي صحفي

نُشرت في الخميس 13 مارس 2025 01:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.