صانعو القرار العراقيون في ظل العقوبات الأميركية

8 قراءة دقيقة
صانعو القرار العراقيون في ظل العقوبات الأميركية عنصر أميركي يقوم بتثبيت علمين العراق والولايات المتحدة

في 4 شباط 2025، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب - مذكّرة ـ لإعادة فرض سياسة الضغط القصوى على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بهدف حرمانها من الموارد الماليّة اللازمة لبناء سلاح نووي ومواجهة ما وصفه البيت الأبيض بـ"النفوذ الخبيث" للنظام الإيراني. ورغم أن المذكّرة تستهدف إيران بالدرجة الأساس، إلّا أن انعكاساتها ستكون حاسمة على النظام السياسي في العراق. إذ تضع الطبقة السياسيّة العراقيّة -تحديداً الأحزاب الموالية لإيران- أمام خيارَين صعبين: مواجهة عقوبات أميركية قد تؤدي لاحتجاجات شعبيّة واسعة في حال الاستمرار بدعم النظام الإيراني، أو فك التحالف الاستراتيجي بينهم وبين محور المقاومة الذي تقوده طهران.
 
لقد نصّت المذكرة على توجيهات لمراجعة وإلغاء جميع التنازلات الأميركية الممنوحة فيما يتعلق والتجارة مع إيران. التنازلات التي يعتمد عليها العراق بشدّة لشراء الغاز الطبيعي من أجل تشغيل شبكة الكهرباء، وتوفّر للنظام الإيراني حوالي الـ 2.6 مليار دولار. فضلًا عن فرض عقوبات على جميع الجهات التي تساعد على تهريب النفط الإيراني، العمليّة التي يُشتبه بمساهمة مؤسسات رسميّة عراقيّة فيها. وقد نصّت المذكّرة أيضا وبشكلٍ صريح على منع استغلال إيران للنظام المصرفي العراقي من أجل التهرّب من العقوبات. البنود التي إن لم تتعامل الحكومة العراقيّة معها بشكلٍ صحيح ستؤدي لفرض عقوبات تشل قطّاعات الطاقة والمال في العراق.
 
الشبكات الزبائنية في خطر
 
تستند الأحزاب السياسيّة العراقيّة على طبقة واسعة من الشبكات الزبائنيّة - أي نظام الولاء السياسي القائم على توزيع الوظائف العامة- لإدارة وتوسيع نفوذها. إذ من خلال القدرة على تعيين الموظفين في القطّاع العام، والسيطرة على المناصب التنفيذيّة المهمّة، يتم شراء ولاءات الناس وإقناعهم بالتصويت دوريّاً. بعد احتجاجات تشرين 2019 برزت أداة تعيين مزيد من الموظفين على القطاع العام – بغض النظر عن كفاءتهم أو الحاجة إليهم- ليس كوسيلة لتنمية الشبكات الزبائنية فقط، بل كحائط صد للنظام السياسي كاملًا أمام أي ارتباك قادم. عمليّة كبيرة ومستمرّة لرشوة المجتمع عن طريق رواتب الموظّفين والمتقاعدين وشبكة الرعاية الاجتماعيّة مقابل السكوت وعدم الاحتجاج. نجح النظام السياسي العراقي في استيعاب الاحتجاجات. عيّن معظم الشرائح الداعمة لها، وامتص غضبهم بوضعهم على جداول الرواتب. نتيجة لذلك، وصلت التكاليف التشغيلية لموازنة العراق إلى حوالي 47 مليار دولار.
 
إلّا أن أداة التعيينات التي قدّمت إنقاذاً وقتيّاً للنظام السياسي يمكن أن تكون العامل الأهم والأساسي بإسقاطه في حال فشل الدولة بتوفير الرواتب. في نوفمبر 2024 قرّر مجلس الوزراء استقطاع 1% من رواتب الموظّفين والمتقاعدين وتصنيفها كتبرّعات لغزّة ولبنان. إذ ورغم المقدار الضئيل للاستقطاع وارتباطه بقضايا يتعاطف معها العراقيون، إلّا أن حملة الرفض الواسعة والكبيرة أدّت لاحقاً للتراجع عن هذا القرار وإعادة الاستقطاعات بأثرٍ رجعي تجنباً لإثارة غضب الشارع.
 
في حال امتداد العقوبات الأميركية على إيران لتشمل قدرة العراق على بيع النفط أو مقدار حصوله على العملة الصعبة من الدولار الأميركي سيقوّض هذا قدرة الدولة العراقيّة على توفير الرواتب. مما سيحفّز قيام احتجاجات أكبر وأشد من الاحتجاجات التشرينيّة. لقد حوّلت سياسة النظام بتوسيع الشبكات الزبائنيّة المزاج الاجتماعي للنظر للدولة ليس على أنّها حامية للحقوق الإنسانيّة والسياسيّة، أو كشريك يسهم بالتقدم والتنمية ويمثّل مصالح الفئات السكانيّة المختلفة، بل ضامناً للرواتب فقط، وسيؤدي فشلها بتوفير الرواتب إلى إسقاطها. لقد أعطتنا استقطاعات الـ1% لمحة عن نظرة العراقيين للدولة، ويمكن لعقوبات أميركية تستمر عدّة أشهر أن تضع النظام السياسي العراقي أمام ملايين من الموظّفين الغاضبين.
 
العلاقة مع محور المقاومة
 
بالنسبة للطبقة السياسيّة الموالية لولاية الفقيه تمثّل العلاقة الوطيدة -والتي تتعارض مع المصالح العراقية الوطنية في لحظاتٍ عديدة- مع النظام الإيراني عاملًا رئيسيًّا في بقائهم بالسلطة. فمثلما ساهم النظام الإيراني بحماية نظام بشّار الأسد في سوريا والحوثي في اليمن ونفوذ حزب الله في لبنان، فهو ينتهج نهجاً مشابهاً مع السياسيين في العراق. لقد وفّر النظام الإيراني في العراق الفتاوي اللازمة والتأصيل الثقافي لقمع المحتجّين الذين شاركوا في احتجاجات تشرين 2019. بدءاً من تعليق المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي على الأحداث في العراق واصفاً الاحتجاجات كـ"محاولة لدق الإسفين بين العراق وإيران"، ليعود لاحقاً لقول: "أُوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشّغب وانعدام الأمن الذي تسبّبه في بلادهم أميركا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربيّة بأموال بعض الدول الرجعيّة". لقد صدرت مواقف مشابهة من رئيس الجمهورية الإيراني آنذاك إبراهيم رئيسي الذي قال: "لقد ظهرت فتن في العراق للتأثير على حدث الأربعين العظيم... أرادوا إشعال فتنة أميركية سعودية في العراق". فضلًا عن تعليق إمامي كاشاني إمام جمعة طهران: "إن العدو يولي اهتماماً بمسيرة الأربعين والعراق ويخلق المتاعب". لقد تم ترجمة هذه التصريحات إلى جهد إيراني على الأرض من أجل المشاركة بقمع الاحتجاجات التشرينية، بإرسال ضبّاط كبار في الحرس الثوري يتمتعون بخبرة في احتواء الاضطرابات المدنيّة لتقديم المشورة للحكومة العراقيّة وفق رويترز. لقد ساهمت إيران بقمع الاحتجاجات الشعبية في العراق من أجل حماية النظام السياسي، كما ساهمت في لحظات عديدة منذ 2003 ولنفس الهدف.
 
إن النفوذ الإيراني في العراق ولَّد نوعاً من الاحتياج الدائم لدى الطبقة السياسية العراقيّة لإيران، إذ أن بالنسبة إليهم، يمكن اللجوء لإيران من أجل حمايتهم في حال حصول احتجاجات. حيث أصبح النفوذ الإيراني يمثّل بالنسبة للعراقيين الاعتياديين أداة كبيرة ووحشيّة للقمع. بينما يمثّل للطبقة السياسيّة الحاضنة الإقليمية الوحيدة المستعدّة للدفاع عنهم.
 
خطوات ضرورية
 
ويواجه النظام السياسي في العراق مفترق طرق، إمّا التضحية بشكل العلاقة الحاليّة مع إيران لتجنّب العقوبات الأميركية، أو المخاطرة بانتفاضة شعبيّة قد تهدّد استقراره. تحسين العلاقات مع دول الجوار والسعي نحو شراكات جديدة قد يكون الحل الوحيد لتقليل الاعتماد على إيران وتحصين البلاد من خطر العقوبات الأميركية دون حصول انهيار داخلي. يمكن لدول مثل قطر وتركيا أن تساهم باستبدال الغاز الطبيعي وإمدادات الطاقة الكهربائيّة القادمة من إيران، فضلًا عما يمكن أن تقدّمه الاتفاقيات التجاريّة مع الأردن والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات من تعويض للبضائع القادمة من إيران.

 

بالنسبة للعراق فأن تنويع شراكاته الإقليمية امرٌ يتخطّى تجاوز العقوبات، بل سيضمن استقرار واستقلال قراره السياسي على المدى البعيد ويجنّبه الاعتماد المفرط على إي قوة أجنبية، وكان يجب فعل هذا منذ اللحظات الأولى بعد 2003 لولا النفوذ الإيراني الذي دفع -وبشكل تدريجي- باتجاه احتكار القرار السياسي العراقي من قبل حلفاء إيران.
كذلك، يجب على الأحزاب السياسيّة أن تعيد النظر بطبيعة علاقتها مع المجتمع العراقي. وأن تكون هناك قرارات حاسمة لاستعادة ثقة المواطنين بالنظام الديموقراطي، الثقة التي تتراجع مع كل انتخابات وتنعكس من خلال مستويات مشاركة متدنية.
 
كما يجب أن تنظر الولايات المتّحدة لأي محاولة لفرض عقوبات على العراق ضمن هذا السياق. أي عقوبات قادمة عليها أن تساهم بدفع الطبقة السياسيّة العراقيّة صوب شراكات راسخة وطويلة الأمد مع الدول الإقليميّة الحليفة لها. فضلًا عن تصحيح العلاقة بين الأحزاب السياسيّة والمجتمع العراقي وتقويض سلطة الميليشيات التي من المتوقع أن تقف ضد مساعي انفتاح العراق على محيطه الإقليمي. فإن عمليّة عشوائية وغير مدروسة وانتقاميّة لفرض عقوبات قد تؤدّي لتعميق الاحتياج السياسي العراقي للنفوذ الإيراني. وحرمان العراقيين الاعتياديين من الأموال، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعظيم قدرة الأحزاب والميليشيات الغنيّة والكبيرة على استغلال احتياج الناس وشراء ولاءاتهم بصورة أكبر.

الفضل أحمد باحث وكاتب يركز على الشؤون السياسية والتغيّرات الاجتماعية في وسط وجنوب العراق

نُشرت في الاثنين 10 مارس 2025 10:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.