بغداد القديمة.. جهد إعمار يحتاج لـ"تدقيق" وفتح مسارح ودور عرض ومقاه جديدة

10 قراءة دقيقة
بغداد القديمة.. جهد إعمار يحتاج لـ"تدقيق" وفتح مسارح ودور عرض ومقاه جديدة

المكان مساحة لجذب اقتصادي وسياحي

عززت عملية إعادة تأهيل مدينة بغداد القديمة (وسط العاصمة)، عودة الحياة لمناطقها من جديد بعد أن شهدت اهمالاً لعقود طويلة، حيث حولت عملية الاعمار والتأهيل المدينة إلى عنصر ونقطة جذب للشباب والعوائل العراقية والسياح العرب والأجانب، لما تشكله تلك المناطق من أهمية تاريخية وتراثية وشاهداً للإحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

وكان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، افتتح في حزيران الماضي، المرحلة الثانية من مشروع تأهيل مدينة بغداد التاريخية المتمثل بإعادة تأهيل محور السراي _ القشلة باتجاه ساحة الميدان، بعد إتمامه.

 

وبحسب المكتب الإعلامي للسوداني، اشتمل المشروع المنجز على ترميم وصيانة واجهات المباني التراثية والتاريخية، وصيانة وتأهيل منظومات وشبكات البنى التحتية، واستحداث محور ثقافي واجتماعي وترفيهي للمشي، وكذلك استحداث ساحة السراي، وتأثيث الشوارع والإنارة، ومعالجات المباني التاريخية، وباقي الأعمال المدنية.

 

هوية بغداد

 

وأشار السوداني، خلال الافتتاح، إلى أن العمل تمّ بأيادٍ عراقية، من خلال فريق تخصصي، اتجه إلى تطوير هذه المواقع المهمة التي تمثل قلب بغداد التاريخي، وجزءاً مهماً من تراثها السياسي والثقافي والاجتماعي.

 

وأكد السوداني المضيّ في استكمال المشروع بمراحله الخمس، ضمن سعي الحكومة إلى رعاية هذا الملفّ ودعمه، وتعزيز ما يمثله من لمسة وهوية وطنية وتاريخية لمدينة بغداد.

 

وذكر السوداني، أن هذه المنطقة بدأت تتحول فعلياً إلى قبلة للسائحين، ومنطقة ترفيهية لأهالي بغداد وزائريها، مثنياً على إسهام أمانة بغداد وتعاونها في إتمام المشروع مع باقي الوزارات المعنية، وديواني الوقفين، والبنك المركزي العراقي ورابطة المصارف العراقية، وما جرى تخصيصه من منافع اجتماعية لاستكمال المشروع، مؤكداً المضيّ في المرحلة الثالثة؛ من أجل منح مدينة بغداد صورة جديدة وناصعة تمثل تاريخها وتتلاءم مع سمعتها العالمية.

 

بين باب المعظم والرصافي

 

وفي هذا السياق، أكد محافظ بغداد الاسبق، صلاح عبد الرزاق، أن بغداد القديمة وهي المنطقة المحصورة بين باب المعظم وساحة الرصافي "عانت من الاهمال والفوضى وانعدام التنظيم والنظافة حتى كادت تندثر معالمها الاثرية".

 

وقال لـ "الجبال"، "في عام ٢٠١١ قمنا بإعادة تأهيل بناية المحاكم القديمة وافتتحت فيها المركز الثقافي البغدادي الذي يحتضن عشرات الفعاليات والنشاطات الثقافية والفنية كل جمعة"، مبيناً ان "في عام ٢٠١٣ قمنا بصيانة وتأهيل مبنى القشلة واعمار البرج وساعته العتيدة ومنارتها وحدائقها حتى اصبحت رئة ثقافية تستقطب آلاف الزوار ايام الجمع".

 

وزاد، "قامت مجموعة مصارف بتأهيل شارع السراي وتعبيده وانارته اضافة الى صيانة مبنى السراي وقبته المرصعة بالنجوم النحاسية، اضافة الى اعمار مديرية الاوقاف العامة ومبنى مديرية شرطة بغداد واكساء الساحة المقابلة حيث اصبحت المنطقة افضل واجمل وتستقطب الزوار والسياح ليلاً بعد تزويدها بالإنارة الجميلة".

 

قوة اقتصادية

 

بدوره يشير الباحث الاقتصادي، بسام البصري، إلى أن بغداد تعد بمكانة القلب النابض للعراق وهي تلك المدينة الخالدة التي استأثرت بالعقول وكانت لها مكانة بارزة في التاريخ بالإضافة إلى دورها الأساسي في النشاط الثقافي والاقتصادي والتجاري على مر الحقب التاريخية، مبينا أن "إعادة رونق بغداد لما كانت عليه من قبل، عبر أعمال الترميم أو التشييد وإحياء المباني الأثرية ذات القيمة التاريخية المهمة ومن ثم العمل على إعادة هيكلة العاصمة ستتحول إلى مزار سياحي متكامل يمثل عمل تنموي استراتيجي".

 

ورأى في حديثه لـ "الجبال، إن النهوض بالعاصمة "سيكون هو القوة المنشطة للاقتصاد العراقي، وستكون نتائج ذلك النهوض تنمية اقتصادية واجتماعية من خلال نمو الطلب على المنتج السياحي حيث إن السياحة الثقافية والتاريخية تندرج ضمن الصادرات غير المنظورة".

 

 

السطوع والأفول

في حين، تقول المهندسة المعمارية، ‏ميسون الربيعي، ان "بغداد تتميز كباقي عواصم العالم بمركز تاريخي عريق والذي يعود إلى نهاية العهد العثماني وبداية العهد الملكي حيث يضم معظم منشآت دوائر الدولة التنفيذية والمركز التجاري والمالي للعراق".

وتضيف الربيعي لـ "الجبال"، انه من ناحية التصميم المعماري والحضري لهذا المركز فإنه "كان ينسجم مع متطلبات المرحلة التاريخية من ناحية حركة البضائع و خزنها واستخدام وسائط النقل النهري والتنظيم الإداري للدوائر السياسية في حينها".

اما من الناحية ‏الإنشائية، فتؤكد المعمارية، إن "معظم هذه الأبنية كانت تشيد من مادة الطابوق ومادة الخشب في معالجة التسقيف والواجهات، وفي مرحلة لاحقة دخلت بعض المقاطع الحديدية ومادة الكونكريت المصبوب موقعياً".

 ‏منذ بداية العهد الجمهوري بدأت عملية ازاحة عدد من الدوائر السياسية من هذا المركز التاريخي، والكلام للربيعي، التي تابعت :"وبدأ الأفول يصيب المركز التجاري وذلك بسبب عدم انسجام التخطيط الحضري مع حاجات نقل البضائع بالشاحنات الكبيرة أو توفير مواقف لتفريغ البضائع أو مواقف سيارات للمتبضعين في هذا المركز رغم المحاولات المخلصة التي أبدتها أمانة العاصمة ومنها بناء السوق العربي ولكن هذا الأمر لم يمنع ازاحة عدد من الفعاليات المالية والتجارية باتجاه مركزين رئيسيين في منطقة الكرادة و حي المنصور".

 

 

اعادة تشغيل أبنية المركز التاريخي باتجاه وظائف جديدة

واستذكرت الربيعي، عدد من المهندسين المعماريين قد قاموا قبل قرابة خمسة عقود و بالتعاون مع أمانة العاصمة بتشريع قوانين الحفاظ على المنشآت والأبنية ذات الطابع التاريخي والمعماري المتميز، ولكن هذا الجهد تراجع كثيرا بعد دخول العراق مرحلة الحصار الاقتصادي في بدايات التسعينات من القرن الماضي، واستدرك المعمارية :"لقد ارتفعت الأصوات مؤخرا من قبل عدد من المعماريين العراقيين الرواد لإعادة أحياء المركز التاريخي لبغداد وذلك أسوةً بعواصم العالم الأخرى".

لكن الربيعي اشارت إلى أن عملية إعادة تأهيل المركز التاريخي يحتاج إلى استثمارات مالية كبيرة و ذلك بسبب فقدان معظم منشآتها مواصفات البناء الآمن و من ضمنها مادة الخشب التي لا تنسجم مع المناخ القاري المتطرف و الجاف في العراق، كما ان مادة الخشب مادة حية، بحسب ما تقول الربيعي، وتضيف :"وتحتاج إلى نسب عالية من الرطوبة على مدار السنة ما لم تعالج صناعيا بمواد حافظة قبل تضمينها في الابنية التاريخية حيث أن مادة الخشب غير آمنة من ناحية الاشتعال و التسبب بالحرائق بما يرشح استبدالها بمواد مشابهة له بالمنظر".

وزادت، ان "البنى التحتية في هذا المركز متهالكة و تحتاج إلى تبديل خطوطها و مساراتها و اورد امثلة منظومة مجاري المياه الثقيلة تحت الارض و خطوط الطاقة الكهربائية التي يفترض حمايتها تحت الارض ايضا و انابيب تجهيز الماء الصافي، مشددة على استحداث مواقف تحميل و تفريغ البضائع و مواقف سيارات تحت الارض او متعددة الطوابق".

ونوهت إلى اعادة تشغيل أبنية المركز التاريخي باتجاه وظائف جديدة، وقالت :"واورد على سبيل المثال؛ صالات العرض السينمائي والمسارح، و الألعاب الرياضية الداخلية، و مقاهي الترفيه، و صالات العرض الفني، و غيرها من الاقتراحات، كما في حملة اعادة الإعمار لهذا المركز يجب ادخال معايير السلامة الإنشائية و مخططات الحماية من الحريق بمواصفات مطابقة للمعايير البريطانية و الاوربية للحفاظ على الأرواح والممتلكات".

ودعت المعمارية إلى أن تكون هذه الحملة مقسمة إلى مراحل زمنية متعاقبة لعدة اسباب و منها النقل التدريجي للفعاليات الاقتصادية و توفير فرص عمل بعقود طويلة الامد للعمالة العراقية و استقطاب المستثمرين العقاريين و اعطاء فسحة زمنية لعمليات الترويج و الاعلان التجاري.

ولفتت إلى ضرورة "تنبيه الجهات التنفيذية وخصوصا امانة بغداد إلى المشاكل المتأتية عن ارتفاع مناسيب المياه الجوفية لأسباب متعددة و منها الترشحات من الشبكة المتهالكة الحالية و عطل مضخات تفريغ المجاري في مواسم الأمطار والسيول. ان تفاوت مناسيب المياه الجوفية يخلق تجاويف ارضية تقود إلى هطول غير متوازن لأساسات الابنية".

وختمت انه رغم التحديات المذكورة أعلاه يجب ان "تتظافر العقول الهندسية والمعمارية لوضع ستراتيجية طويلة الامد و الاستفادة من تجارب القارة الاوربية الثرية في هذا المجال".

 

"نحتاج الى مختصين وخطط مدروسة"

في المقابل، اعتبرت زميلتها المعمارية فينوس سليمان، أن بغداد القديمة واحدة من اهم مراكز المدن التاريخية في العراق و العالم، و فيها كنوز معمارية تنقل بصدق تاريخ المكان و حضارة مجتمعه و احداثه السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية.

وأكملت في حديثها لـ "الجبال"، :"تتجاوز أهمية المراكز التاريخية – و منها بغداد – حدود الماضي لتصبح نواة مؤسسة لحاضر مستدام و مستقبل يستقر على جذور قوية متأصلة في الأرض و روح الانسان بالتالي يصبح الحفاظ التاريخي سياسة جوهرية للتعامل مع هذا الإرث الغني لا فقط لاستعادة و توثيق التاريخ و انما لإعادة احياء روح المدينة و هويتها و علاقتها بالإنسان و انتمائيته و بناء مستقبلها المستدام و لهذا تتسابق الأمم و الحكومات في العالم للحفاظ على مواقعها التاريخية و ارثها العمراني الثقافي المرتبط بالمكان".

ونوهت إلى انه "من اجل تحقيق هذا الهدف يتم اعتماد خطط مدروسة تبدأ من تأسيس برامج اكاديمية قوية تؤهل العاملين في هذا المجال و تبتعث الدارسين، و تستقدم بعثات، و فرق مختصة لتدريب الكوادر، و رسم برامج الحفاظ بدقة لضمان الحفاظ الحقيقي على الإرث و كنوز التاريخ و المستقبل".

ومع أهمية الحملة العمرانية لإعادة الحياة إلى بغداد القديمة، تصف سليمان بأن الإجراءات المتبعة "للأسف تحتاج الى تدقيق اكبر حيث ان أي اجراء خاطئ يسبب في خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها ابدا حيث الحفاظ التاريخي في العالم المتقدم هو اختصاص دقيق جدا يحتاج مختصين دارسين لاختصاص الحفاظ التاريخي بمناهجه و استراتيجياته و فلسفته و يحتاج فرق بكاملها من مختصين و دارسي الحفاظ التاريخي في العمارة و الهندسة المعمارية و المدنية و هندسة المواد و الذكاء الاصطناعي و المؤرخين و الآثاريين و اختصاصات تاريخ البنية الاجتماعية بالإضافة الى مختصي تقنيات و تكنولوجيا الحفاظ التاريخي".

وتضيف "و للأسف في الواقع الحالي نجد ان خريجي العمارة مثلا – بدون دراسة لاختصاص الحفاظ التاريخي- و لكن يتم اعتمادهم في موقع اتخاذ قرار فيما يخص استراتيجيات الحفاظ و التعامل مع الإرث المادي و اللامادي. النتيجة تكون خسارات كبيرة قد لا تظهر واضحة لغير المختص".

واعتبرت سليمان، إعادة الحياة إلى بغداد القديمة هدف سامي وأساسي في بناء التنمية المستدامة ولكن يجب ان يعتمد على استراتيجيات مدروسة من قبل مختصين حقيقيين و خبراء في مجال التاريخ و الإرث العمراني و الثقافي و البنية الاجتماعية.

 

جبار الحاج

نُشرت في الأربعاء 14 أغسطس 2024 08:09 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

المزيد من المنشورات

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.