في قلب قرية "جرف الملح" التي لم تعد تعرف إلا بلقب "قرية البتران" بسبب كثرة الذين فقدوا أطرافهم نتيجة المخلفات الحربية، حيث يعيش أبو حسين في عقده الرابع، وكان يسعى كغيره من سكان القرية البسطاء للرزق اليومي.
أبو حسين الذي يعيل سبعة أفراد من عائلته، كان قد بدأ يومه كالمعتاد، يبحث بين الحطام والركام، ليعثر على قطع معدنية متناثرة ويلتقطها آملا في بيعها لتوفير لقمة العيش، لكنه لم يكن يعلم أن تلك اللحظة ستكون فاصلة في حياته.
بينما هو منهمك في جمع المعادن، انفجر به مخلف حربي مدفون منذ سنوات كان يظن أنه مجرد جزء من الماضي الذي تم نسيانه، الانفجار كان قوياً لدرجة أن أبو حسين فقد ساقه اليمنى، ليجد نفسه بعدها مقعداً في بيته لا يستطيع حتى المشي، بعيداً عن الحياة التي كان يطمح إليها.
أبو حسين وبنبرة تحمل مرارة تجارب الأيام العصيبة يبحث عن فرص عمل تعيل عائلته، وما حصل عليه سوى طرف اصطناعي يزن خمسة كيلوغرامات وهو ثقيل لا يعطيه الحرية بالتحرك والمشي لمسافات بعيدة.
قرية "جرف الملح" تقع شرق البصرة بالقرب من الحدود العراقية الإيرانية، حيث تنتشر بقايا الحروب على طول الأرض. وهذا هو حال العشرات من سكان هذه القريبة التي يقدر عدد المبتورين والمتضررين فيها بحسب كلام الأهالي بالمئات، لا يمكنهم الانتقال إلى مكان آخر فهي محل سكناهم وفيها ولدوا فمن الصعب الانتقال إلى اخر خصوصاً بالتوازي مع عدم وجود عوامل تشجع الغير على شراء منازلهم في حال رغبوا بذلك.
وتعد البصرة الواقعة جنوبي العراق واحدة من أكثر مدن العالم تلوثاً بالمخلفات الحربية والقنابل العنقودية، بحسب معنيين، إذ كانت مساحات منها خلال الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لثمان سنوات مكاناً للعمليات العسكرية، وزُرعت فيها ملايين الأمتار المربعة بالألغام، فضلا عن حرب الخليج وسقوط الصواريخ والقنابل العنقودية غير المنفلقة.
في تصريحٍ صادم لمنصة "الجبال"، كشف مدير المركز الإقليمي لشؤون الألغام في وزارة البيئة للجنوب نبراس فاخر، عن حجم الكارثة البيئية التي تعيشها مدن الجنوب العراقي، مشيراً إلى أن البصرة، التي تُعدّ من أكبر المدن الملوثة في العالم بالمخلفات الحربية، تعاني من وجود أكثر من مليار و205 ملايين متر مربع من الأراضي الملوثة.
وأكد مدير المركز أن "هذا الرقم الكبير يتطلب جهوداً ضخمة وإمكانيات غير مسبوقة لتطهير هذه الأراضي، التي أصبحت تهدد حياة المواطنين يومياً"، مستدركاً بأن "البصرة ليست وحدها في هذه المعركة البيئية، بل إن محافظة المثنى تمتلك أكثر من 145 مليون متر مربع من الأراضي الملوثة، بينما تُسجل ميسان 95 مليون متر مربع وبذلك، وتتجاوز المساحات الملوثة في هذه المحافظات الثلاثة أكثر من مليار و440 مليون متر مربع".
وأشار فاخر أن الجنوب العراقي يضم بهذه الأرقام 1716 منطقة "خطرة" ملوثة بالمخلفات الحربية، وهي مناطق لا تزال تشكل تهديداً دائما للمواطنين، لافتاً إلى أهمية إجراء مسح تقني شامل لهذه المناطق الذي لا يقتصر فقط على تحديد المواقع الملوثة، بل يساعد في تصنيفها ويضع خطة واضحة لأعمال التطهير.
هذه التحذيرات تكشف حجم الكارثة البيئية التي يواجها الجنوب العراقي، وتسلط الضوء على الحاجة الملحة للجهود الحكومية والدولية لتطهير هذه الأراضي، قبل أن تصبح الخسائر أكبر من أن تُحمد عواقبها.
وبهذا الإطار، دعا مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة مؤخراً رئاسة مجلس المحافظة إلى الإسراع في تفعيل التوصيات الهامة التي تمخضت عن الاجتماع الذي رعاه المجلس قبل ثلاثة أشهر، والذي عُقد عبر لجنة ضحايا الألغام والمقذوفات الحربية.
وقال مدير المكتب، مهدي التميمي إن من أبرز التوصيات التي خرج بها الاجتماع كان "دعوة أصحاب القرار في وزارات البيئة والدفاع والداخلية والنفط، بالإضافة إلى الحكومة المحلية، إلى اتخاذ خطوات جدية لإنهاء ملف الألغام والمقذوفات الحربية في المحافظة".
وأضاف التميمي أن الاجتماع أكد أهمية دعم مركز إزالة الألغام والمقذوفات الحربية في جنوب العراق، والذي يقع مقره في البصرة، بهدف تعزيز قدراته في تطهير المناطق الملوثة وتخفيف المخاطر التي تهدد حياة المواطنين، موضحاً أن "التصاعد الخطير في أعداد ضحايا الألغام والمقذوفات يستدعي اتخاذ قرارات عاجلة وتنفيذ الحلول اللازمة لحماية أرواح المواطنين في المناطق المتضررة".
فيما أوضح معاون محافظ المثنى يوسف سوادي، في حديث للجبال، أن "بادية المثنى كانت هي الأخرى ساحة للعمليات العسكرية والحروب خصوصاً في عامي 1991 و2003، مما جعل مساحاتها الشاسعة ملوثة بآثار هذه الحروب. وأن المثنى تعد ثاني أكبر محافظة في العراق من حيث التلوث الناتج عن القنابل العنقودية والمخلفات الحربية"، مشيرا إلى أنها تضم أكبر عدد من القنابل العنقودية.
ولفت سوادي إلى أن آخر عملية مسح للضحايا التي أُجريت عام 2013، أسفرت عن تسجيل 3330 ضحية تضرروا جراء انفجار هذه القنابل.
وتطرق سوادي إلى الجهود المبذولة في عملية تطهير المنطقة من هذه المخلفات، حيث أشار إلى أن الجهد الأكبر يقع على عاتق الدفاع المدني، لكنه يحتاج إلى وقت أطول ودعم إضافي. كما لفت إلى أن هناك جهداً محدوداً من قبل منظمة مساعدة الشعب النرويجي، وهي منظمة غير ربحية تعمل على إزالة المخلفات الحربية وتوعية السكان، لكن عملها يبقى محدوداً أمام حجم المشكلة.
الهيئة الدولية للصليب الأحمر في العراق، أوضحت في بيان لها، أن العراق من أكثر البلدان تلوثًا بالمخلفات الحربية، ما يشكل تهديداً كبيراً على حياة المجتمعات المحلية. وأن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالتعاون مع دائرة شؤون الألغام ومديرية الدفاع المدني، بذلت جهداً للحد من هذه المخاطر، حفاظًا على سلامة المواطنين، منوّهاً أن المنظمة "قامت بتثبيت لافتات توعوية في محافظات النجف وميسان والبصرة في جنوب العراق، لتسليط الضوء على أهمية اتباع سلوك آمن والابتعاد عن المناطق الملوثة، وذلك بهدف رفع الوعي بين المواطنين بشأن المخاطر المرتبطة بالمخلفات الحربية والذخائر غير المنفجرة".