الحمى القلاعية تلتهم الثروة الحيوانية في بؤر موت صامت.. قصص حية من "مأساة" المزارعين

12 قراءة دقيقة
الحمى القلاعية تلتهم الثروة الحيوانية في بؤر موت صامت.. قصص حية من "مأساة" المزارعين مزرعة مواشي في الفضيلية - الجبال

في مزرعة "الفضيلية" ببغداد، حيث اعتاد منصور الزبيدي أن يستيقظ على أصوات جواميسه، ويغوص في تفاصيل يومه بين رعاية القطيع وحلب الإناث، حلّ صمت ثقيل، لم تعد هناك خوارات صباحية، ولا خطوات حثيثة تقطع المزرعة جيئة وذهاباً.

 

"أتانا المرض كالإعصار.. اجتاح كل شيء، لم يترك لنا خيارا سوى مشاهدة تعب العمر ينهار أمام أعيننا"، يقول منصور بصوت يثقلُه الألم.

 

منصور الزيدي وهو أحد المربين المتضررين من الوباء، قال لـ"الجبال": "بدأ الأمر فجأة.. الجاموسة الأولى توقفت عن الأكل، بدأت تترنح، لعابها يسيل، ثم سقطت. بعدها، توالت الإصابات كالنار في الهشيم. كبيرة كانت أو صغيرة، مرضعة كانت أو حامل، لا فرق.. وفي غضون أيام، تحولت المزرعة إلى مقبرة، والجواميس التي لم تمت، لم تعد تتحرك، لا تشرب، لا تأكل، ولا يمكن حلبها".

 

واستكمل حديثه: "الأسوأ من كل هذا أن المرض معدٍ بطريقة مرعبة، لم نتمكن من حماية القطيع السليم، فكل رأس أصيب بعد الآخر بسرعة لا تصدق، كنا نحاول بكل ما نملك، لكن لا يدَ لنا أمام هذا الفيروس القاتل".

 

 

نظر منصور إلى الأرض التي عاش عليها أجداده، والتي ورثها عنهم ليكمل إرثهم في تربية الجاموس، ثم زفر بمرارة: "تعب مئات السنين أصبح تراباً"

 

وسط هذه الكارثة، لم يطرق بابه مسؤول، لم يتواصل معه طبيب بيطري، ولم تصل أي مساعدة أو لقاحات. ظل وحيدا في معركته، هو وجواميسه التي كانت يوماً مصدر رزقه الوحيد، حسب قوله. 

 

 

الحمى القلاعية تتفشى

 

وشهدت مناطق متفرقة في العراق خلال الأيام القليلة الماضية انتشار فيروس خطير فتك بأرواح الماشية، أبرزها اطراف العاصمة بغداد (الفضيلية، بسماية، جرف النداف، حي الوحدة، النهروان) مروراً بالحلة وتحديداً منطقة "العيفار" وصولاً إلى بلدة "بادوش" غرب الموصل بمحافظة نينيوى، بالإضافة إلى محافظة البصرة التي أعلنت عن تسجيل إصابات بهذا المرض، وبعد التحريات التي استمرت خمسة أيام، تم توجيه أصابع الاتهام إلى ما تسمى بالحمى القلاعية.

 

رئيس لجنة الزراعة والأهوار النيابية، فالح الخزاعي، قال: "انتشار الوباء أدى إلى تأثيرات سلبية كبيرة على الثروة الحيوانية في العراق، ما استدعى اتخاذنا إجراءات عاجلة للحد من تفشيه". وأوضح الخزاعي أنه "وجهنا الجهات المختصة بزيادة عدد الفرق الجوالة لمتابعة الوضع ميدانياً وإجراء فحوصات دقيقة على اللقاحات، مع تكثيف توزيعها في المحافظات الأكثر تضرراً".

 

وأشار إلى أن "الجهود تتركز بشكل خاص في بغداد، هور الدلمج، ذي قار، العمارة، والبصرة، خشية من استمرار تفشي المرض وتأثيره على الثروة الوطنية".

 

 

كما شدد الخزاعي على ضرورة اتباع إجراءات وقائية صارمة عند التعامل مع الحيوانات النافقة، موضحاً: "إن عمليات الطمر ستتم وفق آليات صحية مدروسة، تشمل تخصيص مواقع طمر آمنة، ومعالجة الجثث بمواد معقمة قبل دفنها، وضمان عدم وصول أي ملوثات إلى مصادر المياه الجوفية أو الأراضي الزراعية".

 

وأضاف أن "الجهات البيطرية والبيئية ستشرف على عمليات الطمر لضمان الالتزام بالمعايير الصحية العالمية، مع فرض رقابة مشددة على عمليات التخلص من الحيوانات الهالكة، لمنع أي تجاوزات قد تؤدي إلى مخاطر بيئية أو صحية على المواطنين والمزارعين في المناطق القريبة من مواقع الطمر".

 

 

واختتم الخزاعي تصريحه مؤكداً أن آليات تعويض المتضررين ستتم وفقاً للأمر الديواني رقم (30) لسنة 2024، وذلك لضمان دعم المربين وتعويض خسائرهم الناتجة عن انتشار هذا الوباء.

 

منافذ بلا فحص

 

في ظل انتشار الحمى القلاعية وارتفاع أعداد المواشي النافقة، تبرز مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن المرض نفسه، وهي آليات استيراد الماشية إلى العراق، والرقابة البيطرية على المنافذ الحدودية. تصريحات عضو لجنة الزراعة والأهوار النيابية، رفيق الصالحي، تلقي الضوء على رابط مباشر بين تفشي المرض ودخول ماشية مستوردة حديثاً، قادمة من دول مثل الهند وكولومبيا والبرازيل، دون خضوعها لإجراءات فحص صارمة.

 

ولم ترصد الفرق البيطرية انتشار المرض إلا بعد وصول المواشي المستوردة إلى المزارع المحلية واحتكاكها بالقطعان العراقية، مما سمح للفيروس بالانتقال بسرعة مذهلة. الصالحي شدد على هذه النقطة مستنتجاً أن "هذا يعني ان الماشية المستوردة لم تخضع للفحص اللازم قبل دخولها إلى العراق".

 

ومع بدء التحقيقات في المنافذ الحدودية، أكد الصالحي أن الجهات المختصة تدقق في الإجراءات التي تمت على المنافذ الحدودية، لمعرفة أسباب غياب الرقابة البيطرية، ومنع تكرار هذه الأزمة مستقبلاً،  كما شدد على: "ضرورة تطبيق رقابة صارمة على استيراد الماشية، وإلزام الجهات المختصة بإجراء فحوصات دقيقة قبل السماح بدخول أي ماشية إلى البلاد، لضمان عدم تسرب أوبئة جديدة تهدد الأمن الغذائي والاقتصاد الحيواني".

 

 

حين يصبح الاستيراد لعنة

 

في قلب الأزمة التي عصفت بمربي الجواميس، وبينما تتراكم الخسائر دون أي حلول تلوح في الأفق، يقف ليث شاكر، أحد المربين المتضررين، عاجزاً أمام ما أصاب مصدر رزقه، متسائلا بحرقة: "ما ذنبنا نحن؟".

 

يقول شاكر بغضب وألم: "نريد أن نشتكي على الجهات التي استوردت الجواميس والعجول الأجنبية وأدخلتها إلى العراق عبر الموانئ دون فحصها، كيف يُسمح بدخول ماشية دون التأكد من سلامتها؟ النتيجة كارثية.. الجواميس المحلية أصيبت بالمرض، والموت حصد أعدادا هائلة في أيام قليلة".

 

الأرقام صادمة، حيث يؤكد شاكر أن "العائلة التي كانت تملك مئة رأس جاموس، لم يبقَ لديها اليوم سوى ربع هذا العدد، وخلال خمسة أيام فقط، مات أكثر من خمسة آلاف رأس جاموس في منطقة الفضيلية وحدها، والله يعلم كم فقدت بقية المحافظات".

 

الأزمة لا تقتصر على نفوق المواشي فحسب، بل امتدت إلى حياة العوائل التي تعتمد على تربية الجواميس كمصدر رزق وحيد، والتي باتت اليوم غارقة في الديون. يقول شاكر بأسى: "كل عائلة منّا مدينة بعشرين مليون دينار أو أكثر، ولدينا أطفال ونساء نعيلهم.. كيف سنوفر لهم حياة كريمة بعد أن فقدنا كل شيء؟ أين نذهب؟ ولمن نشتكي هذه المصيبة التي قصمت ظهرنا؟".

 

من جانبه، انتقد نعيم مازن، وهو أيضاً أحد مربي الجواميس، سياسة الاعتماد المستمر على استيراد المواشي، رغم امتلاك العراق ثروة حيوانية  قادرة على تلبية الاحتياجات المحلية لسنوات طويلة، وأكد مازن أن "الثروة الحيوانية المحلية كافية تماماً لسد حاجة السوق، مع ذلك، يتم اللجوء إلى استيراد الماشية في كل مرة دون مبررات واضحة، ما يعرّض الإنتاج المحلي للخطر".

 

وأضاف: "لا يوجد تفسير لهذا النهج سوى الفساد المالي والإداري، حيث يتم استيراد الماشية بهدف التجارة والربح، دون أي رقابة صحية صارمة تضمن عدم تسرب الأمراض إلى مواشينا المحلية".

 

شدّد مازن على أن الاعتماد على الإنتاج المحلي سيحمي الثروة الحيوانية الوطنية، ويقلل من مخاطر الأوبئة، إضافة إلى دعمه للاقتصاد العراقي بدلاً من توجيه الأموال إلى الخارج، مطالباً بفرض رقابة أكثر صرامة على عمليات الاستيراد، ووضع سياسات تحمي المربين المحليين من الخسائر المتكررة بسبب هذه القرارات العشوائية.

 

 

لقاحات غير فعالة.. وبدائل محلية منسية

 

الحاج حسين جاسم العكيلي، أحد وجهاء منطقة الفضيلية، طالب بفتح تحقيق عاجل، داعياً رئيس الوزراء إلى التدخل شخصياً لمعالجة جذور الأزمة واتخاذ إجراءات سريعة لاحتوائها. وأشار العكيلي إلى أن "العلاجات التي وصلت إلى المربين مستوردة وغير فعالة، رغم امتلاك العراق منشآت وطنية متخصصة، مثل شركة الكندي للقاحات والأدوية البيطرية، التي تنتج علاجات ذات جودة عالية وبإشراف كوادر كفوءة".

 

تساءل العكيلي عن أسباب عدم التعاقد مع الشركات المحلية، خاصة أن تكلفة العلاج المحلي زهيدة جداً، في حين يتم استيراد اللقاحات من الخارج بعقود بملايين الدولارات، مؤكداً أن الاعتماد على الإنتاج المحلي سيوفر حلولاً أكثر فاعلية لمواجهة الأوبئة، ويعزز الاقتصاد الوطني، مطالباً الجهات المعنية بمراجعة سياسات الاستيراد ودعم التصنيع المحلي في القطاع البيطري".

 

هل تنتقل للإنسان؟

 

بيّن فراس رياض جميل، أستاذ التقنيات الأحيائية والأمراض الانتقالية، أن "فيروس الحمى القلاعية لا يشكل خطراً مباشراً على المواطن العراقي، حيث إنه لا ينتقل من الحيوان إلى الإنسان، مطمئناً بأن المرض يظل محصوراً في نطاق الثروة الحيوانية".

 

ولفت جميل إلى أن العاملين في مجال الجزارة هم الفئة الأكثر عرضة للخطر، إذ قد يؤدي التلامس المباشر مع اللحوم المصابة، خاصة في حالة وجود جروح مفتوحة، إلى إصابات جلدية تستدعي التدخل الطبي، مشدداً على ضرورة اتباع إجراءات وقائية صارمة، بما في ذلك تعقيم الأدوات، وارتداء القفازات أثناء التعامل مع اللحوم، والتوجه إلى الطبيب فوراً في حال حدوث أي إصابة جلدية.

 

كما نصح د. جميل، المستهلكين بتجنب تناول الأجبان غير المعقمة واللحوم غير المطهية جيداً خلال هذه الفترة، لضمان الوقاية من أي مخاطر صحية قد ترتبط بالتعامل مع المنتجات الحيوانية المصابة. 

 

وفي السياق ذاته، وجه ماجد الكعبي، وهو خبير بالصحة الحيوانية، الأهالي إلى أن يشتروا اللحوم من مجازر مجازة ومفحوصة، أو من موردين معروفين لديهم، لتجنب أي احتمالية لتلوث اللحوم أو تلفها. كما نبّه بضرورة التحقق من لون اللحم عند الشراء، موضحاً أن اللحم السليم يكون وردي اللون أو أحمر فاتح، بينما اللحم الداكن قد يكون مؤشرا على عدم جودته، مما يستدعي التحقق منه قبل استهلاكه.

 

ودعا الكعبي إلى "الالتزام بمعايير النظافة والسلامة الغذائية عند الطهي والتخزين".

 

أزمة تحت السيطرة؟

 

تصريحات لعضو لجنة الصحة النيابية، كريم السراي، طرحت تساؤلات حول حقيقة انتشار المرض وحدود تأثيره الفعلي على الثروة الحيوانية. فبينما تشير التقارير الإعلامية إلى أعداد "مهولة" من الإصابات، يقلّل السراي من حجم الكارثة، مؤكدا أن الانتشار ليس واسع النطاق كما يصور، وأن الفيروس، رغم تأثيره القاتل على المواشي، يظل بسيطاً في طبيعته، شبيها بالإنفلونزا في البشر.

 

الإجراءات الحكومية، وفقا للسراي، تتضمن منع نقل المواشي بين المحافظات كخطوة للحد من انتشار العدوى، وهو قرار منطقي من الناحية الوقائية، لكنه يفتح تساؤلًا : هل جاءت هذه الإجراءات متأخرة؟ وهل كانت هناك رقابة مشددة على استيراد الماشية، التي يُرجّح أنها السبب في دخول الفيروس إلى البلاد، كما أشارت بعض التقارير النيابية؟.

 

بين التصريحات الرسمية التي تطمئن، والتقارير الإعلامية التي تحذر، يبقى السؤال الأهم: هل لدى المؤسسات البيطرية والرقابية القدرة على السيطرة على الأزمة، أم أن العراق يواجه تحدياً جديداً في الحفاظ على أمنه الحيواني وسط ضعف الرقابة الصحية؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.

 

الفاو تتدخل.. سباق مع الوباء

 

ومع تزايد المخاوف حول انتشار الحمى بشكل أوسع، تتجه الأنظار نحو استجابة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، التي تتابع التطورات عن كثب وتنسق مع الجهات الحكومية المعنية. فالمسألة لا تتعلق فقط بصحة المواشي، بل تمتد إلى الأمن الغذائي والاقتصاد المحلي، مما يجعل التدخل الدولي ضرورة ملحة.

 

صلاح الحاج حسن، ممثل الفاو في العراق، أوضح لـ"الجبال" أن "المنظمة تقدم كل أشكال الدعم الفني المطلوب للوزارة، من خلال توفير المعلومات والمعطيات التي تساهم في تقييم الوضع الحالي، وتقليل المخاطر المرتبطة بتفشي المرض".

 

ورغم أهمية الدعم الدولي، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في البنية التحتية البيطرية داخل العراق. إرسال العينات المرضية إلى مختبرات مرجعية دولية، كما أشار الحاج حسن، قد يضمن تشخيصاً دقيقاً، لكنه يسلط الضوء على افتقار العراق لمختبرات محلية متخصصة قادرة على التعامل مع مثل هذه الحالات بفعالية وسرعة.

 

وإلى جانب الدعم الفني، تركز الفاو على الجانب التوعوي، حيث أشار الحاج إلى "إننا نعمل على تنفيذ حملات تستهدف المربين، لتعريفهم بخطورة المرض، وطرق انتشاره، والإجراءات الوقائية اللازمة لحماية مواشيهم، على أمل أن لا نصل لمرحلة أكثر صرامة مثل فرض رقابة مشددة على أسواق الماشية وتحديث سياسات الحجر الصحي".

 

استجابة الفاو تمثل خطوة مهمة، لكنها تبقى جزءاً من حل أكبر يجب أن تقوده الجهات العراقية عبر تعزيز قدرات الطب البيطري، وتحسين أنظمة الفحص والرقابة، والاستثمار في مختبرات محلية متطورة. فهل ستدفع هذه الأزمة السلطات لإعادة النظر في سياسات الصحة الحيوانية المستدامة، أم ستظل حلول الطوارئ هي الخيار الوحيد؟

 

مينا القيسي

نُشرت في الخميس 20 فبراير 2025 03:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.