أعقبت زيارة وزيرة الخارجية الألمانية (أنالينا بيربوك) ونظيرها الفرنسي (جان نويل بارو) إلى سوريا ولقائهما بقيادة الإدارة السورية الجديدة في العاصمة دمشق سيلاً من التعليقات والمواقف المتباينة حول الحدث، بدءاً بنزول بيربوك من الطائرة بدرع واق من الرصاص إلى امتناع المسؤولين السوريين عن مصافحتها، إلى طريقة التي تقابل بها المسؤولان الأوروبيان مع قائد سوريا الجديد، ومن ثم تصريحات بيربوك بالمؤتمر الصحفي الذي عقدته بعيد اللقاء.
زيارة "مهمّة" لسوريا التي تشهد نشاطاً دبلوماسياً كبيراً منذ أسابيع، من أول وزيرين أوروبيين بعد سنوات من القطيعة، جسّدت انفتاح أوروبا على سوريا ما بعد الأسد وإدراتها الجديدة، ترافقه ريبة وحذر لم يخفيا على وزيرة الخارجية الألمانية ونظيرها الفرنسي.
أكدت بيربوك في حديثها عن نتائج الاجتماع مع الإدارة السورية الجديدة، في مؤتمر صحفي، أن موقفها لا يمثل ألمانيا فقط بل الاتحاد الأوروبي بشكل كامل، مشيرة إلى أن زيارتها إلى دمشق تعكس إمكانية بدء مرحلة جديدة من العلاقات، وأن أوروبا ستدعم سوريا الجديدة لكن "لن تقدّم الأموال للهياكل الإسلامية الجديدة". فكيف تنظر أوروبا إلى سوريا الجديدة، وإلى ماذا تهدف فيها، ما برنامجها اتجاه السلطة السورية الجديدة؟ وما هي صور الدعم التي يمكن أن تقدمه لنهوض هذا البلد من جديد؟.
يقول الباحث المختص بالشؤون السياسية والأمنية، معن طلاع، في حديث لمنصة الجبال، إن السياسة الأوروبية ترتكز عموماً من قبل سقوط نظام بشار الأسد على ثلاثة أضلاع رئيسة، موضحاً أن "الضلع الأول قائم على مقاربة اللاجئين وإنتاج سياق يضمن عودة اللاجئين بطريقة ما سواء عبر تركيا أو عبر النظام سابقاً، وهذا كان مؤشراً رئيساً لتعيين مبعوث أوروبي خاص لاستلام ملف اللاجئين. والثاني يقوم على التكيّف مع نتائج المشهد عبر التعاطي الحذر والمبكر في كل القطاعات. والضلع الثالث يستند إلى محدّد أمني بحت يرتبط بملف داعش عموماً والسجون ومخيم الهول"، مشيراً إلى أن "هذه المحددات لا تزال محل اهتمام، وزاد عليها ضلع رابع يقوم على ضمان استقرار سوريا لعدم وصول دفعة جديدة من اللاجئين" إلى القارة العجوز.
وأضاف طلاع أن أوروبا تعتمد في تحقيق أغراضها في سوريا على استراتيجية تستند إلى دعامتين، "الأولى دعامة العقوبات والثانية دعامة إعادة الإعمار، وتربط كلا الملفين بإنتاج عملية سياسية انتقالية شاملة"، مستدركاً بأن "سقوط النظام يجعل هذين الوضعين محل نقاش. وأن حكومة دمشق الآن ترى ضرورة التعاطي مع ملف العقوبات بطريقة مختلفة، ووجوب ترتيب ملف إعادة الإعمار بوجود مناخ سياسي مستقر إلى حد بعيد".
تشير المعطيات، إلى مساهمة أوروبا بتقديم الدعم الفني العملي في عملية بناء سوريا الجديدة، مع إمكانية منح مساعدات مالية "مشروطة" تعتمد على مدى استجابة السلطات السورية لمطالب أوروبا، ومدى انسجام مسار العملية السياسية ونتائجها مع الرغبة الأوروبية، وبدا ذلك في حديث الوزيرين الأوروبيين.
وبحسب طلاع، فإن الاتحاد الأوروبي "سيحاول أن يركز على الرغبة بعدم وجود سلطات مصنّفة، وبشكل آخر ينتظر إشارة حل جميع الفصائل العسكرية سواء كانت بصبغة إسلامية أو صبغة أخرى، وأن يتم التعامل مع مؤسسات الدولة القادمة"، مبيّناً أن "الجانبين يدركان، بمكان ما، أن الدعم المالي المقدّم سيكون محل نقاش ومحل اهتمام بشكل بالغ. بالتالي قد يرتبط بشروط قد تتعلّق بممارسة ضغوط لتخفيف النفوذ الروسي في المشهد السوري، أو مسألة دعم الاستقرار، أي خلق بيئة سياسية تعددّية قابلة لانتاج حياة سياسية مدنية مستقرة في البلد".
وتصدر مشهد استقبال الشرع لبيربوك وبارو تداول وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية، قسم الناس حوله بين مؤازر للشرع ومنتقد له، والأمر ينطبق على الوزيرين الألمانية والفرنسي. فخرجت تعليقات تنتقد تصرف مسؤولي الإدارة السورية الجديدة، وتتهمهم بعدم مراعاة قواعد وبروتوكول المصافحة لدى السياسيين بالعالم، والترويج لنموذج إسلامي متشدّد يشابه ذاك الموجود في أفغانستان، فيما عدّ آخرون ذلك تصرف شخصي يدخل بإطار حرية المعتقد. قابله استنكار بعض آخر مظهر بيربوك خلال الاجتماع وطريقة إلقاء وزير خارجية فرنسا التحية على المسؤولين السوريين.
وبهذا الشأن رأى طلاع أن "تناول هذا الموضوع (المصافحة) يصب في نقاشات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتأثر بالانقسام الأيديولوجي، والنظر أيديولوجياً إلى المشهد"، مؤكداً أن "المصافحة كفعل لا تؤثر على العلاقات الدولية بين الجانبين، بل إن مفهوم العلاقات الدولية قائم على أساس المصالح، ومنطق الدول أيضاً قائم على المصالح وليس على الصور".
وكانت بيربوك علّقت على الأمر بقولها إنه مع وصولها إلى العاصمة السورية بدى واضحاً لديها أن لقاءها مع المسؤولين السوريين سيخلوا من المصافحات المعتادة في مثل هذه اللقاءات، وأن "ذلك كان واضحاً أيضاً لدى وزير الخارجية الفرنسي، فلم يمدّ هو أيضاً يديه للمصافحة"، مؤكدة أن ذلك لن يؤثر على مسار العلاقة بين الجانبين.
أشارت بيربوك إلى تحديد شروط مسبقة للإدارة السورية قبل توجهها ونظيرها الفرنسي إلى دمشق، من أجل التباحث في استئناف العلاقات، ومنها: "دعم الانتقال الشامل والسلمي للسلطة، إعادة إعمار البلاد، إشراك جميع المكونات والمجموعات العرقية السورية في العملية السياسية وإعادة الإعمار، وإنهاء وجود القواعد الروسية على الأراضي السورية"، فضلاً عن "ضرورة ضمان أمن الكورد وتقديم ضمانات أمنية لهم. وهذا يتطلّب إنهاء القتال في مناطق الشمال ودمج قوات سوريا الديمقراطية في هيكلية الجيش، وإن المحادثات الأولية مع قوات قسد خطوة مهمة بهذا الاتجاه" حسب قولها.
من جانبه، عرض وزير الخارجية الفرنسي استعداد بلاده لتقديم مساعدات فنية وقانونية في وضع الدستور الجديد للبلاد، كذلك إرسال خبراء لنزع الأسلحة الكيميائية من سوريا، مؤكداً: "سنشارك في نهضة السوريين بعد عقود من ظلمة نظام الأسد".