ذي قار| عشرات الأعوام من الإرث المسرحي دون قاعات مسرحية.. الفنانون يلجأون إلى الشارع و"الحدائق"
مسرح في ذي قار
يعكس تاريخ المسرح في ذي قار الذي تجاوز المائة عام، إرثاً فنياً عميقاً، إلا أن هذه المحافظة، التي تعد واحدة من أعرق المدن العراقية جنوباً، لا تزال تفتقر إلى منصات مسرحية تليق بهذا التاريخ الزاخر على الرغم من كونها مهداً للعديد من الطاقات الفنية التي تنافس على الساحة الدولية، وفنانوها يجدون أنفسهم مضطرين لتقديم عروضهم في الساحات العامة والحدائق والمنصات المدرسية في غياب المسارح المناسبة.
ورغم هذه الظروف الصعبة، لا تزال ذي قار تسعى للحفاظ على هذا الإرث الفني، وتستمر فرقها المسرحية في النضال من أجل إبراز إبداعاتها، على أمل أن تجد يوماً ما منصة تليق بتاريخها الفني الكبير.
رئيس جماعة الناصرية للتمثيل (وهي إحدى الفرق الفنية الأهلية التي زاد عمرها عن الثلاثين عام)، الدكتور ياسر البراك، بيّن لمنصة "الجبال" تاريخ المسرح الذي أقر بأنه "بدأ مع تأسيس الدولة العراقية في العشرينيات من القرن الماضي وكانت العروض المسرحية في بدايتها تُقدّم من قبل طلبة المدارس تحت إشراف معلميهم، وتمحورت المواضيع في معظمها حول القومية العربية في مواجهة القومية الفارسية، مثل مسرحية (مجنون ليلى) و(وفود النعمان على كسرى)".
وأشار البراك إلى أن هذه الأعمال كانت تعبّر عن الروح عن ما تشهده المنطقة في ذلك الوقت ومع مرور السنوات شهد المسرح في هذه المحافظة تطوراً كبيراً، حيث زارتها العديد من الفرق المسرحية المصرية في الثلاثينات من القرن الماضي، مثل فرق "فاطمة رشدي" و"جورج أبيض" و"يوسف وهبي" التي قدمت عروضاً مسرحية احترافية في الناصرية وكان اختيار هذه المدينة كمحطة مهمة لتلك الفرق يعود إلى موقعها الجغرافي المميز الذي كان يشكل نقطة استراحة بين بغداد والبصرة.
في عام 1936، تأسست أول فرقة مسرحية في ذي قار وهي "فرقة السعدون"، التي أسهم في تأسيسها العديد من الشخصيات المسرحية البارزة، مثل عبد الغفار العاني والد الفنان المعروف وجدي العاني وقد ساعد ذلك في إرساء أساس العمل المسرحي في المدينة.
وفي حقبة الخمسينيات، كان لثلاثة من أبناء ذي قار دور كبير في تطوير المسرح في العراق، وهم محسن العزاوي، عزيز عبد الصاحب، وعدنان المبارك، الذين درسوا في معهد الفنون الجميلة ببغداد واصلوا تدريب وتطوير المسرح في ذي قار بعد عودتهم إلى المدينة، حتى ظهرت في الستينيات مجموعة من المسرحيين الشباب الذين طوروا أساليب جديدة في العرض المسرحي.
مع بداية السبعينات وتصاعد الأحداث السياسية في العراق والعالم العربي، أصبح المسرح في ذي قار مكانًا للصراع الفكري والسياسي ففي تلك الفترة، كان يُستخدم المسرح لترويج الأفكار السياسية المختلفة، سواء من قبل الحزب الشيوعي الذي وظّف المسرح في خدمة قضايا الفلاحين والعمال، أو من قبل التيارات الأخرى التي استخدمت المسرح لنشر أفكارها.
وخلال فترة الحرب العراقية - الإيرانية في الثمانينيات، شهد المسرح تحولًا نحو التعبئة والتوجيه الوطني، حيث تم استخدام المسرح لتعزيز الروح القتالية بين أفراد الشعب. إلا أن هذه المرحلة شهدت أيضاً تراجعاً في الأنشطة المسرحية بسبب الظروف السياسية والاجتماعية.
وعند بداية التسعينيات، ظهرت العديد من الفرق المسرحية الجديدة في ذي قار، مثل فرقة "أور" التي تأسست في عام 1987، وفرقة "جماعة الناصرية للتمثيل" في 1992، وفرقة "لكش" التي أسست في 1993 هذه الفرق لم تقتصر على تقديم العروض، بل استخدمت المسرح كوسيلة للتعبير عن الرفض لنظام صدام حسين، كانت العروض تتسم بالغموض والتشفير، وكان المسرحيون يوجهون رسائل مناهضة للنظام بطريقة غير مباشرة من خلال عروضهم المسرحية.
اما الفترة التي اعقبت عام 2003، ظهرت العديد من الفرق المسرحية في المحافظة، تجاوزت العشرين، إلا أن واقع هذه الفرق كان مليئاً بالتحديات. فمعظم هذه الفرق كانت موسمية، تبدأ بعرض أو عرضين ثم تنطفئ بعد فترة قصيرة بسبب عدم الاستمرارية وعدم توفر الإمكانيات. لكن تبقى فرقة جماعة الناصرية للتمثيل الاستثناء الوحيد، إذ استمرت على مدار 31 عاماً، وما زالت تقدم عروضها المسرحية، مما يجعلها منارة ثقافية في مدينة تفتقر إلى البنى التحتية المناسبة.
ويجد البراك أن "أحد أبرز التحديات التي يواجهها المسرح في هذه المدينة هو غياب القاعات المسرحية النظامية على الرغم من تاريخ المسرح الممتد لأكثر من 100 عام، فلا تزال المدينة تفتقر إلى قاعات مجهزة بأحدث التقنيات في الإضاءة والصوت والمؤثرات البصرية التي تُسهم في تقديم عروض مسرحية تليق بتاريخ المدينة الفني. كما أن معهد الفنون الجميلة في ذي قار، على الرغم من تأسيسه منذ سنوات، ما زال يُنتج خريجين عددهم قليل جداً مقارنة بالحاجة الكبيرة للكوادر المسرحية والفنية المتخصصة".
"الناصرية بحاجة إلى ثلاث قاعات مسرحية نظامية على الأقل، بالإضافة لضرورة إنشاء قاعات في الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، هذه الخطوة ستكون بمثابة نقطة انطلاق حقيقية لإنعاش الحياة المسرحية في المدينة، وتوفير بيئة مناسبة لإنتاج أعمال مسرحية متطورة ومؤثرة"، بحسب البراك الذي أشار أيضاً إلى أن "المسرح في ذي قار، كما في الكثير من الأماكن الأخرى، هو نشاط غير ربحي، ما يعني أن الفنانين غالباً ما يتحملون تكلفة الإنتاج المسرحي. هذه التحديات تزيد من صعوبة الاستمرارية، خاصة مع غياب الدعم الحكومي الملموس، إلا أن إرادة الفنانين القوية وقدرتهم على الاستمرار رغم الصعوبات تبقى هي الدافع وراء صمود المسرح في المدينة".
فيما كشف نقيب الفنانين في محافظة ذي قار، علي عبد عيد، لمنصة "الجبال" عن معاناة المسرحيين في المحافظة بسبب غياب الدعم الحكومي الفعلي للجانب الثقافي، وخاصة الملف المسرحي، لافتاً إلى أن "ما يوجد حالياً من مسارح لا يعدو كونه أماكن صغيرة غير ملائمة للأداء الفني الاحترافي، مثل مسرح النشاط المدرسي وبهو الإدارة المحلية"، مشيراً إلى أن "هذه الأماكن لا تتيح تقديم عروض مسرحية ذات إمكانيات عالية، ولا تلبي احتياجات 180 مسرحياً في ذي قار، كما أن المحافظة تضم العديد من الفنانين في مجالات أخرى مثل السينما والموسيقى والرسم، لكن غياب البنية التحتية الثقافية يحد من قدرتهم على التعبير عن إبداعاتهم".
وأضاف عبد عيد أن هناك إمكانات كبيرة في المحافظة على مستوى الكوادر الفنية التي تستطيع تقديم عروض مسرحية متميزة، ولكنها تواجه تحديات بسبب عدم توفر المرافق المناسبة.
من جانبه، أوضح المتحدث الرسمي باسم وزارة الثقافة، أحمد العلياوي، في تصريح خاص لمنصة "الجبال" أن "الوزارة تسعى جاهدة لدعم الحركة الثقافية في العراق، خاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية للمباني المسرحية، لكن هذا الدعم يتطلب تعاوناً وثيقاً مع الحكومات المحلية"، منوّهاً إلى أن إنشاء المباني المسرحية يقع في نطاق اختصاص المحافظات، حيث تتحمل كل محافظة مسؤولية تنفيذ المشاريع الثقافية ضمن الموازنات المخصصة لها، "ورغم أن الوزارة تشمل في خططها السنوية احتياجات المحافظات من مرافق سياحية وثقافية (بما في ذلك المباني الخاصة بالمهرجانات والفعاليات الثقافية) لكن الوزارة لا تمتلك تخصيصات مالية تمكنها من إنشاء مبان مسرحية في المحافظات، مثل محافظة ذي قار أو غيرها".
العلياوي يرى أن الدعم يأتي في إطار التعاون المستمر بين الوزارة والإدارات المحلية، "إذ يستمر التواصل مع السادة المحافظين لتعزيز الدعم لقطاع الثقافة والفنون، خصوصاً المسرح والسينما. وهناك جهود مستمرة في الحوار على المستوى الوزاري لتوفير التخصيصات المالية اللازمة من قبل الحكومات المحلية لتطوير مشاريع ثقافية متخصصة، بما في ذلك بناء المسارح ودعم الفعاليات الثقافية" حسب تعبيره.
ومنذ عام 2018، لجأ العديد من الشباب الطامحين للتمثيل المسرحي في مدينة الناصرية إلى الشوارع كمساحة للتعبير عن أنفسهم، متخذين الساحات والحدائق مكاناً لعرض أعمالهم وقد وجد هؤلاء الشباب أن التواصل المباشر مع الجمهور في الهواء الطلق هو أفضل بكثير من تقديم عروض داخل الجدران المغلقة. آخر هذه العروض كان مسرحية "شالوم"، التي قدمتها فرقة "تشرين" المسرحية، حيث تناولت المسرحية الاعتداءات الإسرائيلية على الأطفال في قطاع غزة.
رغم الإرث الكبير الذي يتمتع به المسرح في ذي قار بوجود طاقات فنية لا تعد ولا تحصى، لكن يبقى المسرح هنا يعاني من إهمال غير مبرر في البنية التحتية والمنشآت الملائمة. فهل سيظل القطاع المسرحي حبيس الساحات العامة والحدائق والأماكن الضيقة، وهل سنشهد يوماً ما مسارح تليق بتاريخها، أم أن هذا الفن سيظل يعيش في الظل بعيداً عن الأضواء.
مرتضى الحدود
صحفي عراقي
نُشرت في
الخميس 26 ديسمبر 2024 12:00 م
ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني
لم يعجبني
اشترك في النشرة البريدية
المزيد من المنشورات