على ما يبدو أن السياسيين الذين اعتادوا على غسل الأموال عبر العقارات السكنية قد وجدوا في المولات والمطاعم ملاذاً أكثر أمناً، فبعد أن أصبحت طرقهم التقليدية مكشوفة، لجأوا إلى هذه القطاعات التي قد تكون أقل رقابة وأكثر جاذبية لإخفاء الأموال غير القانونية.
وبحسب مراقبين، فإن انتقال غسل الأموال من العقارات إلى المولات والمطاعم له آثار سلبية بالغة على الاقتصاد العراقي والمجتمع، حيث أن هذه العمليات تساهم في رفع أسعار السلع والخدمات وتشجع على المنافسة غير العادلة، وتؤدي إلى تدهور البيئة الاستثمارية.
ويعرف "غسل الأموال"، على أنه عملية إخفاء مصدر أموال غير مشروعة وتحويلها إلى أموال تبدو وكأنها جاءت من مصادر قانونية أو بعبارة أبسط، هي عملية "تبييض الأموال القذرة"، كما يقال.
ويقول مراقبون للشأن الاقتصادي، إن "العراق يشهد تحولاً لافتاً في أساليب غسل الأموال، حيث انتقلت عمليات غسل الأموال من القطاع العقاري إلى قطاعات الترفيه"، معتبرين أن "هذا التحول يمثل تحدياً جديداً للأجهزة الرقابية".
ويدعو العديد من المراقبين الحكومة والجهات المعنية إلى "اتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة غسل الأموال، وتشديد الرقابة على القطاعات التي تشهد عمليات غسل أموال، وتطبيق القوانين بشكل صارم على مرتكبي هذه الجرائم".
إخفاء الأموال غير المشروعة
مع استمرار الحديث عن غسيل الأموال، خرج معاون مدير العام لمكافحة غسيل الأموال في البنك المركزي حسين علي، بالحديث عن الموضوع منتصف العام الجاري، وقال إن "سوق العقارات أعلى أساليب غسيل الأموال في العراق خلال الفترة السابقة، وأن البنك المركزي ومجلس مكافحة غسيل الأموال اتخذ قراراً بخصوص بيع وشراء العقارات من خلال القطاع المصرفي، وفق هذه الآلية ويكون سقف بيع وشراء العقارات 500 مليون دينار".
وفي هذا الصدد، يقول نبيل المرسومي، وهو أكاديمي ومتخصص في مجال الاقتصاد، إن "ظاهرة غسيل الأموال انتشرت في العراق بعد العام 2003، والآن أصبح العراق ضمن أسوأ 10 دول عالمياً وتحديداً في المركز الـ 6 بحسب أجهزة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب".
ويشير المرسومي، إلى أن "هناك جهات بدأت تستثمر في مجالات عديدة كالعقارات والمطاعم لإضفاء الصفة الشرعية للأموال قبيل تهريبها خارج العراق بصفة قانونية وشرعية"، مبيناً أن "قضية غسيل الأموال لا يقتصر فقط على المطاعم والعقارات وإنما حتى المستشفيات والمولات أيضاً تدخل في نفس القضية".
ويضيف المرسومي، خلال حديثه لمنصة "الجبال"، أن "الاستثمار في القطاع السكني الآن أصبح قليلاً مقارنة بالأعوام السابقة كون عملية استيراد رؤوس الأموال بطيئة مقارنة بالمشاريع التجارية الآخرى"، لافتاً إلى أن "الجهات الحكومية عاجزة عن التمييز بين المشاريع الاستثمارية الحقيقية والمشاريع الخاصة بغسيل الأموال وتبييضها".
وفي 9 كانون الثاني 2022، أعلنت وزارة الخارجية العراقية، رفع اسم العراق من قائمة الاتحاد الأوروبي للدول ذات المخاطر العالية في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وفق رسالة تسلمها رئيس الوزراء السابق من بعثة المفوضية الأوروبية.
"مطاعم خاسرة"
الأمم المتحدة تعرف قضية غسل الأموال ضمن اتفاق فيينا لعام 1988، بأنه "تحويل الأموال أو نقلها مع إدراك أنها مستمَّدة من جريمة، وهدف ذلك إخفاء المصدر غير المشروع للأموال والإفلات من العواقب القانونية".
ويقول نبيل العلي، الخبير الاقتصادي، لمنصة "الجبال"، إن "وسائل وأدوات غسيل الأموال وتهريب الأموال كثيرة وقد لا يمكن حصرها، أبرزها المطاعم حيث يرى أبسط الناس أن مثل هذه المشاريع تكلفتها وكلفها التشغيلية لا تتناسب مع حجم إيراداتها، وبالتالي الجميع يضع إشارات استفهام أو يتهم أحياناً مثل هذه المشاريع كونها مشاريع لغسيل الأموال المنهوبة من البلد ومنحها الصفة الشرعية كأرباح من هذه المشاريع وإخراجها خارج البلد لصالح حسابات السياسيين أو من يرتبط معهم في أوروبا أو أميركا أو دول أخرى تخضع اموالها للرقابة، أو وسيلة لإجراء حوالات مالية مستمرة وتدفق مستمر للحوالات تحت عنوان هذه المشاريع".
ويضيف العلي، أن "هذه المشاريع الجديدة (المطاعم)، أقل رقابة من قطاع العقارات الذي بات مكشوفاً، إلا أن نشاط غسيل الأموال وتهريب الأموال وقد لا ينحصر بهذه المشاريع فقط بينما هناك مشاريع وشركات تجارية تعمل وفق هذا المبدأ (وهذا ما يفسر أحياناً وجود بضائع بأسعار أرخص من أسعارها في بلاد المنشأ)".
ولا توجد مؤشرات واضحة بشأن هذه المشاريع ـ والكلام للعلي ـ الذي يتابع قائلاً: "ليست هناك شفافية كافية تمنح للباحثين لمراجعة حجم الحوالات، كون أن القضية محصورة ضمن مكتب مكافحة غسيل الاموال وتمويل الإرهاب مع البنك المركزي، وبين تقرير الأداء المالي والمحاسبة السنوي للشركات".
وفي العام الماضي، قال المتحدث الرسمي باسم وزارة العدل العراقية، كامل أمين هاشم، إن "وزارته استحدثت شعبة في دائرة التسجيل العقاري، وهي شعبة غسيل الأموال، لأن إحدى عمليات غسيل الأموال هي شراء العقارات وبيعها"، في خطوة يبدو أنها أتت ثمارها خصوصاً وأن المتخصصين يؤكدون تراجع غسيل الأموال عبر العقارات.
عضو لجنة النزاهة النيابية في مجلس النواب العراقي النائب هادي السلامي، تحدث قبل فترة من الآن بشأن خسائر العراق من عمليات غسل الأموال.
ويؤكد السلامي، في حديثه أن عام 2020 فقط باع البنك المركزي 40 مليار دولار أميركي في مزاد بيع العملة، والتي يفترض أن تقابلها القيمة ذاتها من الاستيرادات بـ40 مليار دولار، لكن قيمتها بلغت 14 مليار دولار فقط، وهذا يعني أن قيمة عمليات الفساد قُدّرت بنحو 23 مليار دولار أميركي في العام المذكور، في إشارة إلى دخول هذه الأموال بعمليات غسيل أموال داخل البلاد.
ما هي عقوبة غسيل الأموال؟
وانضم العراق خلال العام 2023، إلى مجموعة "إغمونت" وحدات التحريات المالية، لتعزيز جهود مكافحة الفساد وغسيل الأموال، وتضم هذه المجموعة 167 دولة تعمل على تسهيل تبادل المعلومات الخاصة بالسجلات الإجرامية وغسل الأموال وتمويل الإرهاب على الصعيد الدولي.
من جانبه، يقول الخبير القانوني، علي التميمي، إن "عقوبة المضاربة بالأموال نص عليها قانون غسيل الأموال 39 لسنة 2015 في المادة ٤٤ منه والتي عاقبت على ذلك بالحبس مدة سنة وغرامة مليون دينار"، أي بمعنى تحويل الأموال داخل نفس البلد.
ووفقاً لحديث التميمي، لمنصة "الجبال"، فإن تهريب الأموال إلى دول أخرى تعتبر "غسيل أموال"، تصل عقوبته بحسب القانون العراقي، إلى السجن 15 سنة وفق المواد 36 و37 و38 من القانون أعلاه.
ويتحدث التميمي، قائلاً: "بالتاكيد السيطرة على الوضع الاقتصادي مهم خصوصاً وأن الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة وفق المادة 27 من الاتفاقية الاستراتيجية مع العراق بالمساعدة في الأزمات من بينها قضية غسيل الأموال".
وبحسب المادة (2) من قانون مكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب رقم (39) لسنة 2015 يعد مرتكباً لجريمة غسل أموال كل من قام بأحد الأفعال الآتية:
أولاً: تحويل الأموال، أو نقلها، أو استبدالها من شخص يعلم أو كان عليه أن يعلم أنها متحصلات جريمة، لغرض أخفاء أو تمويه مصدرها غير المشروع او مساعدة مرتكبها أو مرتكب الجريمة الأصلية أو من ساهم في ارتكابها أو ارتكاب الجريمة الأصلية على الإفلات من المسؤولية عنها.
ثانياً: أخفاء الأموال او تمويه حقيقتها أو مصدرها أو مكانها أو حالتها أو طريقة التصرف فيها أو انتقالها أو ملكيتها أو الحقوق المتعلقة بها، من شخص يعلم أو كان عليه أن يعلم أنها متحصلات من جريمة.
ثالثاً: اكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها، من شخص يعلم او كان عليه ان يعلم وقت تلقيها أنها متحصلات جريمة.