خاص| كيف صرف برلمان الدورة الخامسة في العراق 650 مليار دينار لإقرار 11 قانوناً فقط؟

خاص| كيف صرف برلمان الدورة الخامسة في العراق 650 مليار دينار لإقرار 11 قانوناً فقط؟ مجلس النواب العراقي

لم يعد النقاش الشعبي أو النخبوي في العراق يدور حول كيفية أداء البرلمان، بل حول ضرورة وجوده أصلاً، فقد تحولت المؤسسة التي أنشأت لتنظيم العلاقة بين السلطات ومراقبة السلطة التنفيذية إلى نموذج للتضخم المالي والجمود السياسي كما أصبحت محل تساؤلات جدية عديدة، وأبرزها: هل ما زال البرلمان مكسباً ديمقراطياً؟ أم عبئاً يكلف الدولة مليارات مقابل إنتاج محدود؟

 

هذه الأسئلة لم تأتِ من فراغ، بل من أرقام دقيقة كشفتها بيانات الخبير الاقتصادي منار العبيدي، والتي تظهر أن مجلس النواب أنفق خلال الفترة الممتدة بين 2015 و2025 ما يزيد على 5.5 تريليون دينار عراقي، مقابل 321 قانوناً فقط، وبهذا يصبح متوسط كلفة القانون الواحد نحو 17.1 مليار دينار، وهو رقم يثير الريبة حول كفاءة المؤسسة التشريعية وحجم عطائها الفعلي.

 

35 مليار دينار للقانون الواحد في الدورة الحالية وحدها

 

بحسب العبيدي، فإن الدورة البرلمانية الحالية سجلت إنفاقاً غير مسبوق، حيث بلغ مجموع ما صُرف عليها 2.4 تريليون دينار، مقابل إقرار 69 قانوناً فقط، أي إن كلفة القانون الواحد وصلت إلى 35 مليار دينار عراقي!

 

أما الدورة السابقة، فقد أنفقت 1.8 تريليون دينار مقابل 91 قانوناً، بمتوسط 20 مليار دينار للقانون الواحد، وهذا يعني أن كلفة التشريع في العراق تتصاعد تدريجياً، حيث ارتفع الإنفاق السنوي على المجلس من 450 مليار دينار عام 2015 إلى أكثر من 650 مليار دينار عام 2025، أُقر خلالها 11 قانوناً فقط بلغت كلفة الواحد منها قرابة 60 مليار دينار عراقي.

 

ويقول العبيدي محذراً، "نتمنى ألا ترتفع قيمة إقرار القانون في الدورة المقبلة إلى أكثر من 100 مليار دينار.”

 

هذه الأرقام تكشف بوضوح فجوة هائلة بين حجم الإنفاق والمخرجات التشريعية، ما يعزز انطباعاً عاماً بأن البرلمان تحوّل إلى مؤسسة مستهلكة للموارد أكثر من كونه جهة منتجة للتشريعات.

 

بدوره، صنف تقرير الشراكة الدولية للميزانية (IBP)  “مسح الموازنة المفتوحة 2023” العراق من بين الدول التي تمتلك أضعف رقابة برلمانية على الإنفاق العام، إذ حصل البرلمان العراقي على 46 من 100 في مؤشر الرقابة و8 من 100 في مؤشر الشفافية.

 

هذه النتائج تعكس ضعف أدوات المساءلة وضعف قدرة البرلمان على مراقبة الإنفاق أو متابعة تنفيذ الموازنة، ما يجعل دوره الرقابي أقرب إلى الشكلية.

 

76 نائباً لم يصوتوا على أي قانون

 

الإحصائية الرسمية الصادرة عن مجلس النواب تكشف ما يمكن وصفه بأخطر مؤشرات التراجع الديمقراطي، فمن أصل مئات النواب هناك 76 نائباً لم يصوتوا على أي قانون طوال الدورة و48 نائباً تحدثوا مرة واحدة في عام كامل و26 نائباً لم يتجاوزوا نصف كلمة، في حين لم يسجل النشاط الفعلي إلا لـ قرابة 20 نائباً فقط!

 

هذه الأرقام غير المسبوقة في مؤسسة يفترض أنها الأعلى تشريعاً ورقابة، تكشف عن جسم تشريعي يعاني من شلل واضح وفقدان كامل للحيوية.

 

وبهذا الصدد، وصف الباحث السياسي فاضل أبو رغيف هذه الإحصاءات بأنها “مفجعة” مطالباً بإعادة الرواتب والمخصصات إذا ثبتت صحة هذه البيانات، فالأمر ليس ضعفاً في الأداء، بل انهيار لمفهوم المسؤولية العامة.”

 

الأزمة التي تكشفها هذه الأرقام ليست مجرد فشل شخصي لبعض النواب، بل أزمة نظام سياسي كامل، فبعد أكثر من 20 عاماً على التحول السياسي، لم يعد النقاش يدور حول صلاحية النظام البرلماني شكلياً، بل حول إمكانية تطبيقه أصلاً في بيئة سياسية منقسمة وغير مستقرة.

 

ومنذ 2005، وُلد النظام البرلماني العراقي في ظل ظروف استثنائية، وصيغ بدفع مباشر من سلطة "الاحتلال"، لمنع عودة الحكم الفردي، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، أحزاب غير مستقرة، ثقافة تداول ضعيفة، ولاءات طائفية ومناطقية، انقسام اجتماعي حاد، فأنتجت هذه البيئة نظاماً توافقياً مغلقاً، تتقاسم فيه القوى السلطة وفق منطق المحاصصة وليس البرامج.

 

وهذا ما دفع رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان الى القول بصراحة إن النظام البرلماني بصيغته الحالية لا يصلح للعراق لأنه يعزز المحاصصة.

 

120 مشروع قانون ينتظر الحسم.. بعضها منذ 3 دورات

 

على مستوى التشريع، يعاني البرلمان من شلل واضح، فهناك أكثر من 120 مشروع قانون عالق منذ سنوات، أبرزها: قانون النفط والغاز، المحكمة الاتحادية العليا، الخدمة المدنية، مجلس الاتحاد.

 

وغالباً ما تبقى هذه القوانين رهينة الصفقات السياسية، أو تُفرغ من مضمونها عندما تمرر، كما حدث مع “قانون الأمن الغذائي” الذي تحوّل إلى أداة إنفاق خارج إطار الموازنة.

 

من جانب آخر، تحوّلت الرقابة البرلمانية إلى أداة تفاوض سياسي، إذ باتت تُستخدم الاستجوابات كوسيلة ضغط، وتُدفن تقارير ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، وتتحول اللجان البرلمانية إلى ساحات مساومة، وبذلك يفقد البرلمان وظيفته الرقابية ويتحول إلى شريك في نظام المحاصصة الذي يحمي الحكومة بدل محاسبتها.

 

أما على مستوى التمثيل الشعبي، يفشل البرلمان في التعبير عن الشارع العراقي، فالنواب يتحركون غالباً ضمن دوائر عشائرية أو خدمية ضيقة، فيما تغيب عنهم الرؤية السياسية.

 

وبهذا الصدد، قال الباحث علي عبد الزهرة لـ”الجبال” إن "المرشحين يعيدون الوجوه والخطابات نفسها من دون برامج واضحة، ما يعكس هشاشة التجربة البرلمانية".

 

وبالحديث عن امتيازات هؤلاء، يتقاضى النائب العراقي راتباً يقارب 10 ملايين دينار شهرياً، إضافة إلى مخصصات حماية، مخصصات سفر، سكن، تأمين صحي، وامتيازات أخرى، ما يرفع التكلفة السنوية للمجلس إلى مئات المليارات، في مقابل إنجاز تشريعي يكاد يكون معدوماً.

 

كما تشير تقارير هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية إلى تضخم لافت في الذمم المالية لعدد من النواب في غضون دورة واحدة، من دون تفعيل حقيقي لقانون “من أين لك هذا؟”.

 

الأزمة السياسية لا تقف عند حدود البرلمان، فالمؤسسات الأخرى دخلت مراراً في قلب الصراع السياسي، ما عمّق الانقسام، خصوصاً بعد أزمة إقالة محمد الحلبوسي التي أبقت المنصب شاغراً لأشهر.

 

كما لعبت التدخلات الإقليمية والدولية دوراً مؤثراً في تشكيل التحالفات والتشريعات، ما جعل البرلمان ساحة لتقاطعات المصالح أكثر من كونه مؤسسة وطنية مستقلة.

 

بالمقابل، يرى الكاتب علي محمود أن "فشل النظام البرلماني لم يكن بسبب طبيعته، بل لأنه وُضع في بيئة غير مهيأة وأُدير بآليات تتناقض مع فلسفته". 

 

ويشير محمود إلى أن "الواقع أنتج نظاماً توافقياً يدار من خارج البرلمان ويفرغه من معناه".

 

 

 

 


الجبال

نُشرت في الأحد 16 نوفمبر 2025 12:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.