في العراق، لا يُنظَر إلى الانتخابات بوصفها نهاية المسار السياسي، بل كمرحلة افتتاحية لمعركة جديدة من المفاوضات والتحالفات التي تمتد غالباً لأشهر طويلة، فبينما ينتظر المواطن إعلان نتائج التصويت لمعرفة شكل الحكومة المقبلة، تبدأ القوى السياسية فعلياً سباقاً معقداً خلف الكواليس هدفه السيطرة على دفة السلطة ضمن معادلة تحكمها المصالح الحزبية أكثر من البرامج الوطنية. ووفقاً لمصادر خاصة تحدّثت لموقع "الجبال" فإن عملية تشكيل الحكومة الجديدة لن ترى النور قبل منتصف العام المقبل، في تأخير يتجاوز نصف عام، ما يعيد إلى الأذهان سنوات الانسداد السياسي التي عطلت استقرار البلاد مراراً.
الطريق إلى الحكومة.. أطول من المتوقع
توضح المصادر ذاتها أن الخلافات داخل المعسكرات السياسية، ولا سيما بين القوى الشيعية التي تتنافس على تسمية “الكتلة الأكبر”، تشكل العقبة الأبرز أمام أي توافق قريب، فكل طرف يسعى لتثبيت موقعه قبل الدخول في مفاوضات توزيع المناصب العليا، الأمر الذي يجعل الحوار الوطني رهينة حسابات النفوذ والتوازنات بدلاً من كونه نقاشاً حول الإصلاح والبرامج الحكومية.
الخبير السياسي جاسم الغرابي، يؤكد أن تأخر تشكيل الحكومة بات أمراً متوقعاً في ظل الانقسامات الحالية، مشيراً إلى أن “الخريطة البرلمانية الجديدة لا تمنح أي كتلة أغلبية مريحة، ما يفرض على الجميع الدخول في مفاوضات شاقة ومفتوحة قد تستمر أكثر من سبعة أشهر”.
ويضيف أن القوى الفائزة ستواجه صعوبة في بناء تفاهمات مستقرة، خصوصاً مع تشابك المصالح الإقليمية وتداخل الأجندات الداخلية التي تجعل تشكيل أي تحالف حاكم مهمة معقدة، مشيراً إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد “بازاراً سياسياً مكشوفاً”، تتنافس فيه الكتل على الوزارات والمواقع القيادية أكثر من تنافسها على البرامج والخطط، وهو ما يعيد إنتاج أزمة الثقة بين الشارع والنظام السياسي.
التقديرات التي تشير إلى تأخر تشكيل الحكومة لا تقتصر على المراقبين، إذ سبق لوزير الخارجية فؤاد حسين أن أكد في حديث إعلامي أن الحكومة الجديدة قد لا تتشكل قبل منتصف العام المقبل، وتحديداً بين شهري حزيران وتموز، ما يعني أن البلاد مقبلة على فترة انتقالية طويلة من تصريف الأعمال ستحدّ من قدرة الحكومة الحالية على اتخاذ قرارات جوهرية.
وبحسب معلومات حصل عليها موقع "الجبال"، فإن "وتيرة المفاوضات الأولية بين القوى الفائزة بطيئة جداً"، رغم الإعلان عن نوايا “تفاهم سريع” من مختلف الأطراف.
وتؤكد المصادر أن بعض الكتل تفضّل التريث في حسم مواقفها إلى حين وضوح الموازين النهائية داخل البرلمان، فيما تسعى أخرى إلى إعادة ترتيب تحالفاتها وفق ما أفرزته صناديق الاقتراع من تراجع أو صعود في عدد المقاعد.
إرث ثقيل من التجارب السابقة
العراقيون اختبروا هذا السيناريو مراراً، فبعد كل انتخابات يدخل البلد مرحلة من الجمود السياسي تترافق مع توقف مشاريع الدولة وتعطيل الموازنة العامة وتأجيل القرارات الحيوية، وفي تلك الفترات تتحول الحكومة إلى إدارة يومية محدودة الصلاحيات، فيما يتزايد الاحتقان الشعبي من الأداء السياسي العام.
ويستذكر المتابعون كيف امتدت مفاوضات تشكيل حكومتي 2010 و2018 إلى أكثر من ثمانية أشهر، ما جعل البلاد رهينة التجاذبات الداخلية وأدى إلى خسائر اقتصادية وسياسية كبيرة، واليوم يخشى المواطنون تكرار المشهد ذاته، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة وتراجع الخدمات وارتفاع معدلات البطالة.
وسط كل ذلك، ينص الدستور العراقي على جداول زمنية واضحة لمرحلة ما بعد الانتخابات، تبدأ بدعوة البرلمان للانعقاد، ثم انتخاب الرئاسات الثلاث وتكليف مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة، لكن الممارسة السياسية أثبتت أن هذه المدد تُخرق بشكل متكرر تحت ذرائع التوافق الوطني أو انتظار التسويات الكبرى.
ويقول الغرابي إن “الاستحقاقات الدستورية تحولت مع الوقت إلى خطوط استرشادية غير ملزمة، لأن القوى السياسية باتت تضع إرادتها فوق النص القانوني”، مضيفاً أن غياب آليات الردع القانونية جعل من التمديد والتأجيل سلوكاً سياسياً مألوفاً.
ويرى أن هذا النهج أسهم في إضعاف ثقة المواطن بالدولة، إذ يلحظ أن الدستور الذي يفترض أن يكون المرجعية العليا أصبح مجرد أداة تفاوض ضمن لعبة المحاصصة، بينما تستمر البلاد في دفع كلفة هذه التأخيرات من استقرارها الاقتصادي والسياسي.
وبحسب معلومات "الجبال"، فإن "المفاوضات غير الرسمية قد بدأت فعلاً بين بعض الكتل التي تسعى لتشكيل نواة التحالف الحكومي المقبل، لكن النقاشات لا تزال تدور في إطار المصالح الجزئية وتقاسم المناصب، أكثر من كونها تستند إلى رؤية وطنية جامعة".
وتشير مصادر سياسية إلى أن القوى الشيعية على وجه الخصوص تواجه اختباراً صعباً في توحيد مواقفها لتحديد مرشح “الكتلة الأكبر”، إذ تنقسم بين من يريد الاحتفاظ برئاسة الحكومة الحالية ومن يطالب بتغييرها، أما الكتل السنية والكوردية فتنتظر ما ستؤول إليه المفاوضات داخل البيت الشيعي لتبني على أساسها مواقفها من المشاركة في الحكومة.
ويؤكد أحد المراقبين السياسيين أن “التحالفات في العراق لا تولد على العلن، بل تُصنع في الغرف المغلقة، وغالباً ما تعقد صفقاتها بعيداً عن الرقابة الشعبية والإعلامية”، مضيفاً أن هذه السرية في المشهد السياسي “هي ما جعل المواطن يشعر بأن العملية الديمقراطية مفصولة عن همومه اليومية”.
السياسي والوزير الأسبق، باقر جبر الزبيدي، يرى أن أزمة تشكيل الحكومات في العراق باتت مزمنة، إذ يقول إن “كل دورة انتخابية تشهد نتائج متقاربة تمنع أي طرف من تشكيل الحكومة بمفرده، ما يفتح الباب أمام تحالفات قسرية تُبنى غالباً على صفقات وليس على برامج”.
ويحذر الزبيدي من تكرار ما حدث في الدورات السابقة حين جرى عقد اتفاقيات “تحت جنح الظلام”، كانت نتائجها كارثية على أداء الدولة واستقرارها، ويضيف أن هذه التفاهمات المغلقة أنتجت حكومات "هشّة" و"عاجزة عن تلبية مطالب الشارع أو مكافحة الفساد"، مؤكداً أن “العراق خسر سنوات ثمينة بسبب ضياع الوقت في المساومات السياسية وتجاوز المدد الدستورية”.
ويشير إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب وعياً وطنياً ومسؤولية تاريخية، لأن البلاد تواجه تحديات أمنية واقتصادية حادة، موضحاً أن تأخير تشكيل الحكومة في هذا الظرف يعني ترك الساحة مفتوحة أمام المخاطر، سواء كانت أمنية نتيجة عودة النشاط الإرهابي أو اقتصادية بسبب تراجع الإيرادات وغياب الخطط التنموية.
من جانبه، يرى أستاذ العلوم السياسية، خالد العرداوي، أن الانتخابات الأخيرة تمثل منعطفاً حرجاً في المسار السياسي العراقي، ليس فقط بسبب انخفاض نسب المشاركة الشعبية، بل لأن المزاج العام بات أكثر تشكيكاً بقدرة النظام على الإصلاح.
ويضيف العرداوي في حديث لـ"الجبال" أن “غياب التيار الصدري هذه المرة أعاد رسم خريطة القوى داخل البرلمان، وفتح الباب أمام محاولات إعادة التموضع بين الكتل الشيعية والسنية والكوردية، في ظل توازنات غير مستقرة”.
وتابع أن، ما بعد إعلان النتائج سيكون “الاختبار الحقيقي” للقوى السياسية، لأن بناء تحالفات قابلة للاستمرار بات أصعب من أي وقت مضى، خصوصاً أن التجارب السابقة أظهرت هشاشة التفاهمات القائمة على المصالح الضيقة.
ويحذّر العرداوي من أن استمرار حكومة تصريف الأعمال لفترة طويلة سيترك فراغاً تنفيذياً خطيراً، ينعكس مباشرة على الاقتصاد والخدمات والأمن المجتمعي، مضيفاً أن “المجتمع الدولي يراقب بدقة أداء الطبقة السياسية، ويقيّم مدى التزامها بالديمقراطية والقبول بنتائج الانتخابات دون طعون أو تصعيد سياسي”.
وختم العرداوي حديثه بالتأكيد على أن "تجديد الثقة الشعبية بالعملية السياسية مرهون بأداء الحكومة المقبلة"، مشيراً أن "العراقيين منحوا النظام فرصة جديدة، لكنهم هذه المرة أكثر وعياً ومطالبة بالنتائج الملموسة، فالمواطن لم يعد يهتم بالشعارات بقدر اهتمامه بالخدمات وفرص العمل وتحسين المعيشة".
وبينما تنتظر الكتل السياسية ما ستسفر عنه المفاوضات الطويلة، يبقى الشارع العراقي يراقب المشهد بقلق وريبة، فالخبرة المتراكمة لدى الناس جعلتهم يدركون أن كل تأخير في تشكيل الحكومة يعني تأخيراً في تحسين حياتهم اليومية، وأن المساومات التي تجري في بغداد قد تحدد مصير البلاد لسنوات قادمة.
هكذا، يتجه العراق مرة أخرى نحو فصل سياسي ساخن، قد يمتد حتى منتصف العام المقبل، وسط ترقّب داخلي ودولي لما ستفرزه المفاوضات من تحالفات جديدة، أما المواطن، الذي أنهكته الانتظارات، فلا يملك سوى الأمل بأن تكون هذه المرة مختلفة، وأن تخرج البلاد أخيراً من دوامة “الانسداد” التي أصبحت سمة ملازمة لكل انتخابات منذ عام 2003.
مبنى البرلمان العراقي