لم تكن الناصرية، المدينة التي تأسست عام 1869 على يد الوالي العثماني ناصر باشا، هادئة منذ نشأتها، بل كانت تتميز دائماً بالنشاط السياسي والاحتجاجات، حيث يعاني سكانها من الفقر والإهمال وتطوف هذه المدينة على بحيرة من النفط وتمتلك قرابة الـ 1200 موقع أثري، ما جعلها تُلقب بـ"متحف العراق".
وبدأ حراكها السياسي منذ عشرينات القرن الماضي وكانت هي من تبادر نحو التأسيس، ولعل ظروفها الاقتصادية جعل من أبنائها يحاولون أن ينتزعوا الحقوق على مرور السنين، حيث برزت المدينة كنقطة انطلاق للاحتجاجات الشعبية في تشرين 2019، إذ أُحرقت مقرات الأحزاب السياسية خلال الحراك التشريني.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية، شهدت الناصرية تشكيلات سياسية جديدة منبثقة من ساحة الاحتجاج مثل حركة امتداد التي حققت 9 مقاعد داخل البرلمان، بينما عادت الأحزاب التقليدية في انتخابات مجالس المحافظات لتستحوذ على 61% من مقاعد المجلس بعد عزوف الشارع، ومع تشكيل حكومة محلية جديدة وبقيت هذه المدينة تحت تأثير هالة من التوترات السياسية، مما يثير التساؤلات حول مستقبل الحراك الشعبي في المدينة.
وشهدت الحكومة المحلية في ذي قار، التي تشكلت في شباط 2024 برئاسة مرتضى الإبراهيمي من تيار الحكمة ونائبيه من حزب الدعوة الإسلامية وعصائب أهل الحق، إلا أن صراعاً سياسياً داخل مجلس المحافظة بدأ من جديد وظهرت تكتلات حديثة النشأة.
في أيار 2024، انطلق رئيس المجلس عبد الباقي العمري بتحالف تحت مسمى "تحالف أبناء ذي قار"، يتألف من 10 أعضاء وأقدم هذا التحالف على تقويض صلاحيات الإبراهيمي مما أثار قلق الأخير خصوصاً وأن بعض أعضاء هذا التحالف ينتمي إلى كتلة الحكمة التي ينتهي إليها المحافظ .
وأصدر مجلس محافظة ذي قار قرارات تقوض من صلاحيات المحافظ وتحد من تحركه ففي جلسته الخامسة عشر أصدر قراراً بمنع استخدام طريقة الإحالة المباشرة في تنفيذ المشاريع من تاريخ 29/5/2024 وبخلاف ذلك يتحمل المحافظ جميع الدعوات التي تم الإعلان عنها وأن لا يتم الإعلان إلا عن طريق التنفيذ المباشر إلا في الحالات الضرورية وبعد أخذ الموافقة من قبل مجلس المحافظة.
محافظ ذي قار مرتضى الإبراهيمي رد على قرار مجلس المحافظة أنه يعمل وفق الصلاحيات المخولة له بحسب المادة الثانية أولا "تخويل المحافظين صلاحية التعاقد المباشر لغاية 6 مليار استثناء تعليمات وتنفيذ العقود الحكومية" وإن المحافظ ملتزم وفق هذا القانون، ولعل هذا الكتاب يبين أنه لا يعير أهمية لقرارات المجلس.
وبعد مضي مدة من الزمن انخرط عقد هذا التحالف وبدأ أعضاؤه يتدبرون أمراً لإقالة رئيس المجلس عبد الباقي العمري بحجج يرونها الأعضاء مقنعة منها أن العمري يقوم بتأجيل الجلسات دون أخذ رأي الأعضاء في ذلك وإدخال مقررات في جدول الأعمال قبل مدة وجيزة من انعقاد الجلسة وإبلاغ اعضاء المجلس بموعد وفقرات الجلسة قبل 12 ساعة من انعقادها في الوقت الذي يجب أن يتم التبليغ قبل 24 ساعة مع تزايد الضغوط، أثيرت شائعات حول وجود "فيديو فاضح"، لكن لم يظهر أي دليل أو تسريب يؤكد هذه الإدعاءات حتى الآن.
جلسة الاستجواب لم يحضرها رئيس المجلس عبد الباقي العمري المقررة له، رغم موافقة نائبه على إجراء الاستجواب ليعقد الأعضاء اجتماعهم في قاعة اجتماعات قيادة الشرطة وقراءة أسئلة الاستجواب والتصويت عليها غيابياً.
ومع تصاعد التوترات، قرر المجلس في جلسة لاحقة التصويت على انتخاب رئيس جديد، ليكون عزة الناشي من نفس الائتلاف الذي ترشح منه العمري، الناشي تم طرح اسمه في أولى المباحثات السياسية عند تشكيل الحكومة كرئيس للمجلس ولكن بوصلة الاختيار تغيرت في حينها.
هذا التحول يعكس الانقسامات الداخلية في المجلس ويزيد من تعقيد المشهد السياسي في ذي قار، حيث تعيد التحالفات تشكيل القوة في صراع السلطة المستمر.
في خضم الصراعات السياسية المتصاعدة، باتت "التسريبات الصوتية ومقاطع الفيديو المخدشة للحياء" سلاحاً يُستخدم بفاعلية من قبل السياسيين في ذي قار أو في بغداد ورغم تحذيرات المختصين الذين يرون أن هذه الممارسات غير لائقة، إلا أنها "أصبحت أداة أساسية للتشويه السياسي وإسقاط الخصوم".
وفي عصف مفاجئ بالمشهد السياسي في ذي قار، حيث تم اعتقال شبكة ابتزاز استجابة لشكوى تقدم بها المحافظ مرتضى الإبراهيمي تضم الشبكة فتاتين وشاباً من قضاء الرفاعي، إحدى الفتاتين كانت مرشحة لانتخابات مجالس المحافظات ضمن كتلة الماكنة، أما الثانية متهمة وفق الفديو المسرب بإقامة العلاقة مع الابراهيمي فهو يظهر المحافظ وهو يتحدث مع الفتاة بكلمات خادشة للحياء وصورة غير لائقة، والإبراهيمي قد وفر لها فرصة عمل بأجر يومي وفق وثيقة رسمية في بلدية الرفاعي.
ولم تصدر تأكيدات رسمية حول صحة الفيديو، إلا أن مصدراً أمنياً أفاد بأن الفتاة اعترفت بوجود عقد زواج منقطع مع المحافظ.
بعد يومين من اعتقال الشبكة، ألقي القبض على عضو مجلس المحافظة عمار ياسر الركابي وهو ضمن قائمة تيار الحكمة التي ينتمي إليها المحافظ وإن التهمة تشير إلى أن الركابي يقف خلف هذه الشبكة ورغم نفيه بحسب مصدر أمني، حيث أكد أن الفتاة طلبت مساعدته بسبب رغبة المحافظ في الزواج منها كي يمكن أن يوجد لها عملاً أو يسيّر بعض الطلبات الرسمية الخاصة بها وأن التحقيقات ما زالت جارية.
كما صدرت مذكرة قبض ضد عضو آخر يُدعى محمد هادي، الذي لم يُعثر عليه في المدينة وفي وقت لاحق، اعتُقل صحفي بتهمة الابتزاز في منفذ سفوان الحدودي.
فمنذ 11 سبتمبر 2024 وحتى الآن عضو مجلس المحافظة عمار ياسر الركابي قيد الاعتقال والتحقيق لكشف تفاصيل هذه القضية.
ولفت مصدر أمني إلى أن رئاسة جهاز الأمن الوطني تولي اهتماماً بالغ الأهمية لملف الابتزاز الحالي الذي يشغل الرأي العام حالياً، مؤكداً أن المتهمين في قضايا الابتزاز لم يُسمح لهم بمواجهة ذويهم أو أصدقائهم حتى الآن، منهم شقيق الركابي الذي حاول اللقاء به لكن جوبه بالرفض.
وأشار المصدر إلى أن هذه الإجراءات تأتي في إطار جهود تقويض عمل الصفحات الوهمية التي تسعى لابتزاز الشخصيات العامة أو المواطنين العاديين.
ونظمت عشيرة "بني ركاب" في الرفاعي وقفة احتجاجية تطالب بالافراج عن عمار ياسر، مبينين أن "الحادث فيه زاوية سياسية وأن الطريقة التي تم اعتقال الركابي فيها كانت غير لائقة بمسؤول حكومي. وفي حال عدم الاستجابة لطلباتهم سيكون هناك تصعيد في المطالبة".
محافظ ذي قار مرتضى الإبراهيمي ذكر في تصريح سابق لـ"الجبال" أن "الجهود الأمنية كانت مكثفة للوصول إلى هذه الشبكة التي تسببت في فساد واسع النطاق في المحافظة"، وقال إن "الشبكة ارتكبت العديد من الانتهاكات، بما في ذلك هدر المال العام والتعدي على الحرمات والمقدرات المحلية".
وصف الابراهيمي هذه الشبكات بأنها "إجرامية" وأن القضاء هو السبيل لتحقيق العدالة، مبيناً أن هناك "إعلاميين متورطين في القضية، وصدرت بحقهم مذكرات قبض، وهم قيد الملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية".
تشير مصادر سياسية إلى أن تيار الحكمة يعتزم الضغط سياسياً لإبعاد عمار ياسر الركابي عن مجلس محافظة ذي قار، في حال ثبوت التهمة عليه وأن النص القانوني يفرض على المجلس اتخاذ إجراءات لإقصائه، لأنه أخل بأحد الشروط الأساسية اللازمة لعضويته، مما يفتح المجال أمام ناصر محسن، الذي حصل على 2462 صوتاً في انتخابات مجلس المحافظة ليكون بديلاً عنه.
وفيما يتعلق بالعضو الآخر، محمد هادي، الذي لا يزال مختفياً، تدور أحاديث خلف الكواليس حول إمكانية التوصل إلى تسوية معه اذ يُعتقد أن "هادي" يمتلك ملفات حساسة قد تُدين شخصيات سياسية وحكومية، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على استقرار الحكومة المحلية بكلا شقيها التشريعي والتنفيذي، وإن التسوية تشير إلى عدم المساس به مع الاستقالة للشخصيات الثلاثة عمار ياسر الركابي ومحمد هادي ومرتضى الإبراهيمي
أعضاء مجلس النواب العراقي عن ذي قار أصدروا بياناً ولم يذكروا عليه أسمائهم، إلا أن عضوين وهما أمل عطيه ونيسان الزاير اكدّا صحة البيان، وأنه صدر عن بعض من نواب المحافظة تضمن أنهم يعبرون عن "حزنهم وعميق أسفهم عن ما تشهده المحافظة من تراجع خطير في كافة الملفات وفوضى أمنية وسياسية، وشلل حقيقي للمؤسسات الدستورية والخدمية وكشف لملفات الأبتزاز التي تظهر بشكل واضح تخلي المسؤول عن دوره في تمثيل أبناء المحافظة وخدمتهم والانشغال بالصراع والتسقيط المتبادل بدلاً من النهوض بواقع المحافظة وتحمل المسؤولية" كما أكدوا دعمهم وتأييدهم الكامل لـ "الإجراءات القضائية المتبعة في معالجة كافة الخروقات والمخالفات ومتابعة العابثين بأوضاع المحافظة ومحاسبة من خالف القانون وسلك طرقاً غير لائقة في التعامل بين المؤسسات الحكومية على أن تطبق الإجراءات القانونية حصراً دون المساس بحق المتهمين الشرعي والقانوني في الدفاع عن أنفسهم" وأن المشاريع لا زالت "معطلة وغالبية تخصيصاتها الحالية لم تستخدم وفقاً للصلاحيات القانونية ولأسباب غامضة وغير مبرّرة في حين أن المحافظة ووحداتها الإدارية بحاجة ماسة إلى الخدمات ولمختلف القطاعات".
وشخص النواب أن "العلاقة بين مجلس المحافظة والمحافظ والأجهزة الأمنية امتازت بالقطيعة وعدم الانسجام والخلافات المستمرة مما خلف نوعاً من عدم الثقة والخصومة المستمرة مما أنعكس بشكل واضح على أداء مجلس المحافظة والمحافظ وانشغالهم بالصراعات بدلاً من القيام بواجبهم المتمثل بخدمة أبناء المحافظة"، وإن "الواجب والمسؤولية الدستورية تملي عليهم أخذ دروهم ورفض الواقع الحالي من خلال استخدام الصلاحيات التي أقرها الدستور في الرقابة والمسائلة لكافة أطراف الحكومة المحلية في ذي قار لأن الأمور وصلت إى مستوى غير لائق وغير مقبول حيث المنافسة الغير مهنية وغير الأخلاقية".
لم تنتهِ الأزمات التي يواجهها محافظ ذي قار، مرتضى الإبراهيمي، عند اعتقالات الشبكة المتورطة في الابتزاز، إذ ظهر تسريباً صوتياً جديداً له خلال اجتماع خاص، في هذا التسجيل، تحدث الإبراهيمي عن اتصال هاتفي مع حميد الغزي الأمين العام لمجلس الوزراء والمشرف على صندوق إعمار ذي قار، وأظهر شبه تحد عندما رفض الإبراهيمي إضافة مشاريع جديدة إلى الموازنة المقترحة".
ما يثير الاستغراب هو أن هذا الحديث، الذي دار في اجتماع صغير على مستوى الدائرة الحكومية، قد تسرب إلى العامة من دون علمه، مما يشير إلى وجود اختراق في الدائرة المحيطة بالمحافظ.
وقام محافظ ذي قار، مرتضى الإبراهيمي بعد أحداث التسريبات بزيارة إلى العاصمة بغداد، لكن اللافت في الأمر أنه التقى زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي دون زعيمه السياسي عمار الحكيم، والمعروف أنه في أغلب زياراته إلى بغداد يلتقي بالحكيم أو قيادة الحكمة.
هذه الأحداث بحسب مراقبين، تثير تساؤلات حول مدى مقبولية الإبراهيمي بين قادة تيار الحكمة، ما يترك علامات استفهام حول مستقبل الإبراهيمي في الساحة السياسية، ومدى قدرته في الحفاظ على دعم قادته في ظل الظروف الراهنة.