اعتراف دستوري وتضحيات.. لماذا لا تُساوى رواتب "البيشمركة" مع الجيش العراقي؟

اعتراف دستوري وتضحيات.. لماذا لا تُساوى رواتب "البيشمركة" مع الجيش العراقي؟ قوات البيشمركة (BBC)

منذ سقوط النظام السابق عام 2003، حاول العراق إعادة بناء مؤسساته العسكرية على أسس وطنية جديدة، تضمنت دمج الفصائل المسلحة وإعادة تنظيم القوات الاتحادية، لكن قوات البيشمركة التي تعود جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي كذراع عسكري للحركة الكوردية، بقيت حالة خاصة، فالدستور العراقي لعام 2005 اعترف بها بوصفها جزءاً من منظومة الدفاع الوطنية، غير أن هذا الاعتراف ظلّ ناقصاً من حيث التمويل والإدارة، ما جعلها عالقة بين الشرعية الدستورية والحرمان المالي.

 

اليوم، وبعد عقدين من ذلك التحوّل، ما زالت قضية البيشمركة تراوح مكانها، تقديرات رسمية وأممية تشير إلى أن أعدادهم تتراوح بين 150 و200 ألف مقاتل، مع خطط تنظيمية تستهدف تقليص العدد إلى نحو 138 ألفاً عبر برامج إعادة الهيكلة والتوحيد، ومع ذلك، تبقى المعضلة الأبرز في التمويل، فرواتب البيشمركة لا تزال رهينة للتجاذبات السياسية تُصرف متأخرة أو مجتزأة على خلاف ما يحصل مع نظرائهم في وزارتي الدفاع والداخلية.

 

اعتراف دستوري بلا التزامات مالية

 

ينصّ الدستور على أن البيشمركة قوة حامية لكوردستان لكنها جزء من المنظومة الدفاعية للعراق، ورغم أن هذا الاعتراف منح هذه القوات شرعية وطنية إلا أن غياب آلية تنفيذية واضحة ربطت رواتبهم مباشرة بالموازنة الاتحادية أبقى أوضاعهم عرضة للتهميش، فبينما يتمتع جنود الجيش والشرطة الاتحادية برواتب ثابتة وتعويضات وضمانات تقاعدية، يجد مقاتلو البيشمركة أنفسهم مرتبطين بتحويلات مالية متقطعة بين بغداد وأربيل، كثيراً ما تتأثر بالصراعات السياسية.

 

وللأسباب تلك، أكد رئيس حكومة كوردستان مسرور بارزاني خلال اجتماع خاص بملف الإصلاحات في الخامس عشر من ايلول الجاري، ضرورة توحيد رواتب البيشمركة مع الجيش العراقي.

 

وذكر المكتب الإعلامي لبارزاني في بيان تلقته "الجبال"، أن الاجتماع تناول خطوات توحيد قوات البيشمركة والإصلاحات الجارية في وزارة شؤون البيشمركة، مشيراً إلى "اتخاذ قرارات مهمة لتسريع العملية أبرزها توحيد الحسابات المالية والإدارية لجميع القوات تحت مظلة وزارة شؤون البيشمركة وبإشراف وزارة المالية والاقتصاد في الإقليم".

 

وشدد بارزاني وفق البيان على أهمية تسهيل معاملات المتقاعدين وضمان صرف رواتبهم بلا عوائق، مؤكداً أن الدستور يضع البيشمركة ضمن منظومة الدفاع العراقية، وبالتالي من الواجب مساواتهم مالياً مع الجيش.

 

هذه الدعوة ليست جديدة لكنها تعكس استمرار الأزمة، حيث تطالب أربيل منذ سنوات بتثبيت حقوق البيشمركة في الموازنة الاتحادية، بينما يقابلها المركز بمماطلة أو إجراءات جزئية.

 

المعاناة اليومية للمقاتل الكوردي تتجلى في تأخر الرواتب وعدم وضوح الضمانات، فعلى مدار سنوات اضطر البيشمركة إلى الانتظار لأشهر لتسلّم رواتبهم في وقتٍ ينعم فيه نظراؤهم في بغداد برواتب أكثر انتظاماً.

 

ولا تطالب قوات البيشمركة بالامتيازات مطلقاً، بل بالمساواة مع زملائهم في وزارتي الدفاع والداخلية العراقيتين، وهو حق تكرّسه النصوص الدستورية والوقائع الميدانية، ومع ذلك بقيت هذه المطالب "حبيسة الوعود والتفاهمات المؤقتة دون حل جذري ودائم".

 

تضحيات بلا مكافأة

 

التاريخ القريب للبيشمركة يختصره ملف الحرب ضد تنظيم "داعش"، فمنذ اجتياح التنظيم مساحات واسعة من العراق عام 2014، كانت قوات البيشمركة رأس الحربة في صدّ تمدده، خصوصاً في نينوى وكركوك ومخمور، حتى أن التحالف الدولي اعترف بفاعليتهم وقدّم دعماً عسكرياً مباشراً لهم باعتبارهم القوة الأكثر تنظيماً في الميدان.

 

ورغم ذلك، حين أعلن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي "النصر النهائي" على داعش عام 2017، وأشاد بالقوات المسلحة والحشد الشعبي تجاهل ذكر البيشمركة، حيث أن هذا الموقف أثار غضباً واسعاً في كوردستان، واعتبر إقصاءً سياسياً غير عادل لتضحيات آلاف المقاتلين الكرد الذين سقطوا دفاعاً عن العراق.

 

أما من ناحية الفوارق بين أوضاع البيشمركة وزملائهم في الجيش والشرطة الاتحادية فهي صارخة نذكر أبرزها:

 

·     رواتب منتظمة تُصرف من خزينة الدولة للعاملين في وزارتي الدفاع والداخلية، بينما رواتب البيشمركة مرتبطة بتحويلات سياسية.

 

·     حقوق تقاعدية وتعويضات مضمونة للجنود الاتحاديين، يقابلها غياب ضمانات واضحة لمقاتلي الإقليم.

 

·     إدماج مؤسسي ضمن هيكلية وطنية موحدة، مقابل وضع ضبابي للبيشمركة.

 

ورغم كل محاولات حكومة كوردستان لتوحيد جداول الرواتب وتطوير نظام صرفها، تبقى الفجوة المالية بين رواتب قوات البيشمركة ونظرائهم في وزارتي الدفاع والداخلية ببغداد واسعة وملحوظة، فالمقارنة تكشف عن تفاوت صارخ لا يخفى على أحد، إذ أن المعدلات المركزية لرواتب الجيش والشرطة الاتحاديين تكاد تضاعف ما يتقاضاه نظراؤهم في قوات الإقليم.

 

فعلى سبيل المثال، لا يقلّ راتب أصغر منتسب في المؤسسات الأمنية الاتحادية – سواء في الجيش أو الشرطة – عن مليون وأربعمئة ألف دينار شهرياً، وهو رقم يُعَدّ خط الأساس الأدنى، قبل احتساب العلاوات والمخصصات التي يمكن أن ترفع المبلغ إلى مستويات أعلى بكثير.

 

في المقابل، تبدأ رواتب عناصر البيشمركة من حدود 500 ألف دينار فقط ثم ترتفع تدريجياً مع الرتبة والخدمة، لكن الغالبية الساحقة منهم لا تتجاوز مخصصاتهم المليون دينار، الأمر الذي يعكس فجوة مالية ومعنوية في الوقت نفسه.

 

هذا التباين لا يقتصر على الجانب المعيشي للأفراد، بل يمتد أثره إلى بنية المؤسسة العسكرية الكوردية ككل، إذ إن محدودية الرواتب مقارنة بالمركز تؤدي إلى تذمر بين المنتسبين وتضعف الحوافز للبقاء في الخدمة أو الانخراط فيها كما أنها تفتح الباب أمام مطالب متكررة من قادة كوردستان بضرورة مساواة رواتب البيشمركة مع الجيش العراقي باعتبار أن الاثنين يقومان بمهام وطنية وأمنية متكاملة ويواجهان تحديات متقاربة في ميدان القتال وحفظ الاستقرار.

 

وبالرغم من كل ذلك، لم يخلُ ملف رواتب البيشمركة من الاتهامات السياسية، فعضو الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبين سلام أكد أن "كوردستان أرسلت بيانات الأجهزة الأمنية إلى بغداد بشكل رمزي مشفّر (كودات)، نافياً اتهامات بوجود “فضائيين” في صفوف البيشمركة".

 

واتهم سلام في حديث لـ"الجبال"، وزارة المالية الاتحادية بـ"محاولة وضع العراقيل أمام إرسال المبالغ"، مشيراً إلى أن "بغداد لا تملك بيانات دقيقة حتى عن الحشد الشعبي، فكيف تدقق بقوائم الإقليم؟".

 

وأضاف، أن "حكومة كوردستان وافقت على مشروع توطين الرواتب أي تسجيل المنتسبين في المصارف، ما ينفي وجود فضائيين"، مشيراً إلى أن "الخشية تكمن في تسريب البيانات عبر المؤسسات العراقية، التي تعاني من ضعف في حماية المعلومات، وهو ما قد يعرّض عناصر البيشمركة للخطر أو الاستهداف".

 

القضية إذن تتجاوز مسألة الرواتب، فهي تعكس صراعاً سياسياً عميقاً بين المركز والإقليم حول السيادة والسلطة، فبغداد تخشى أن يؤدي إدماج البيشمركة مالياً وإدارياً بشكل كامل إلى تعزيز استقلالية كوردستان، فيما ترى أربيل أن رفض المساواة ما هو إلا سياسة تهميشية تهدف لإضعاف الكورد في المعادلة الوطنية.

 

وبين هذه الحسابات، يظل المقاتل الكوردي ضحية النزاع، يقف على الجبهات، يواجه المخاطر، بينما ينتظر في منزله راتباً متأخراً أو وعوداً غير مضمونة.

 

نحو حلّ غائب

 

العديد من الخبراء العراقيين يرون أن الحلّ لا يكمن في المعالجات المؤقتة، بل في وضع آلية قانونية دائمة تدمج رواتب البيشمركة ضمن الموازنة الاتحادية بشكل مباشر بما يضمن مساواتهم بزملائهم في الجيش والشرطة.

 

هذه الخطوة لن تكون مكسباً سياسياً للكورد فحسب، بل ضرورة وطنية لإعادة الثقة في الدولة وبناء جيش موحد يتجاوز الانقسامات.

 

الجدير بالذكر، أن قوات البيشمركة ليست مجرد قوة إقليمية، بل مكوّن أساسي في منظومة الأمن العراقية، لكن استمرار تجاهل حقوقهم المالية والإدارية يهدد وحدة المؤسسة العسكرية ويترك جرحاً مفتوحاً في جسد الدولة.

 

الجبال

نُشرت في الجمعة 19 سبتمبر 2025 03:55 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.