اختبر العراق بعد 2003، مختلف أنواع الوسائل في الصراعات السياسية، بتطويع القانون وعصا النزاهة والاعتقالات والتسريبات وهتك السمعة والتزوير، لكن الدمويّة كانت تختبئ خلف ستار "الفكر"، وإن كانت مرتبطة بالسياسة، وما يزيد خطورة الصراع الفكري ليس دمويته فحسب، بل قدرته على جذب الجماهير والانخراط به كما حصل في المعارك الطائفية.
وما يعزز الاندفاع والتعصب الفكري، هو وجود الأجوبة الجاهزة، والدلائل الواقعية في تصرفات طرف ما وتطابقها مع الاعتقادات والنظرة السلبية المسبقة عنه في تصورات الطرف الآخر، لذلك، فإن ظهور آية حالة فكرية جديدة "هجينة" من داخل كل تيار فكري، سيكون بمثابة "ضارة نافعة"، فضرر تعدد التيارات الفكرية وولادتها من داخل العناوين الرئيسية، هو زيادة التشظي والخلاف، لكنه بذات الوقت، يعيد إنتاج التفكير داخل كل منظومة ويكسر الأجوبة الجاهزة التي تجعلها أكثر تعصباً تجاه الآخر.
"شيعة يبايعون داعش"
كسر الأجوبة الجاهزة ظهر بحوادث متعددة خلال الأسابيع الماضية في العراق، حوادث أمنية مرتبطة بصراع الفكر الذاتي وولادة تيارات في أماكن لا يجب أن تولد فيها، ففكر "داعش" قادر على التسلل إلى عقول ولدت في بيئة وعوائل شيعية وتدفعها لاستهداف الزائرين، والسفليّة "يطيعون الحاكمية الشيعية"، ولا يوجد أبرز من هذين الحدثين لكسر الأجوبة الجاهزة والدفع نحو إعادة إنتاج التفكير الداخلي والتقييم الذاتي.
في شهر آب الماضي، وخلال أيام الزيارة الأربعينية، تم تفكيك شبكة من 23 شخصاً بينهم امرأة، جميعهم من محافظات الوسط والجنوب، ينتمون لتنظيم داعش كانوا يخططون لاستهداف زائري الاربعينية، في إعلان استثنائي لم يكن من المتوقع ان يشهده أحد من قبل، وهذه الشبكة تم "غسل ادمغتهم" عبر الكتب والمحتوى الجهادي وإدماجهم في مجموعات للتثقيف الديني وربطهم بمشايخ ودفعهم لمبايعة قيادة تنظيم داعش، وكانت الخطة أن تقوم هذه العناصر بزرع عبوات ناسفة على طريق الزائرين ودس السموم في أواني الطعام فضلاً عن حرق المواكب الخدمية.
كل هذا يتم تنفيذه من أشخاص تربوا وولدوا في بيئة وعوائل شيعية، وليسوا من مذاهب أخرى يسكنون محافظات الوسط والجنوب، وهو ما أكده الخبير الأمني المقرب من الأجهزة الأمنية الاستخبارية في العراق فاضل أبو رغيف، في تصريحات متلفزة.
"سلفية يطيعون الحاكمية الشيعية!"
وفي نفس سياق "الغرائب الفكرية" وكسر القواعد، ظهرت قصة "السلفية المدخلية"، فالعراقيون لا يعرفون عن "السلفيّة" سوى كونهم "تكفيريون" ولا نماذج ماثلة لهم سوى داعش وتنظيم القاعدة، لكن في حزيران الماضي، ومع إصدار مستشارية الأمن القومي قراراً بـ"حظر السلفية المدخلية"، بدأ يظهر تيار فكري مخفي حدوده المساجد، لا يُعرف عنه الكثير.
منذ قرار حظر المدخلية وما تبعه من ردود فعل من قبل بعض القوى السنية التي رفضت قرار مستشارية الامن القومي وصولاً الى تراجع المستشارية عن القرار، بدأ النقاش حول انتشار الفكر السلفي وتغلغله بالمساجد، ولا سيما في مناطق حزام بغداد، لكن الأكثر غرابة، بدأ السلفيون بلحاهم الطويلة ولباسهم القصير يخرج في الفضائيات ويجتمع مع مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي مثل الشيخ أبو منار العلمي احد مشايخ السلفية، ليتحدث عن "مناصرة التيار السلفي للدولة ومحاربة الإرهاب المتمثل بداعش"، وهذه الخلطة قد تكون غريبة لدى أجزاء كبيرة من الشعب العراقي.
لكن القصة شابها الكثير من الخلط، فلا يوجد "تيار أو تكتل منعزل أو يمكن تمييزه اسمه المدخلية"، لذلك فإن قرار حظرهم كان يعني حظر السلفية بالمجمل، رغم أن مشايخ السلفية في العراق بذاتهم يعانون ويثقفون ضد فرقة المدخلية، حتى أن "أبو منار العلمي" الذي تم تعريفه في وسائل الإعلام بأنه أحد زعماء المدخلية والذي ظهر بضيافة قاسم الأعرجي قبل أن يتم رفع الحظر عن المدخلية، تبرأ بنفسه من المدخلية في حينها، كما أنه يقود حالياً حملة "تبرؤ" كبرى من هذا التيار مع جملة من مشايخ السلفية في محافظات العراق، هذا يعني أن "أبو منار العلمي" وغيره من شيوخ السلفية المعروفين كانوا يرون أن "حظر المدخلية يعني حظر السلفية"، ولم يكن ليدافع عن المدخلية كفرقة عندما ظهر مع الأعرجي، لأنه لا يوجد ما يميز المدخلية عن السلفية، بل أن ربيع المدخلي الذي ينسب إليه المدخلية وهو رجل دين سعودي، "يفسّق" أبو منار العلمي، شيخ السلفية في محافظة صلاح الدين.
تؤكد الشهادات أن المدخلية ليس تياراً واضحاً، بل هو عبارة عن مجموعة شباب سلفية يرفضون شيوخهم في العراق، لأن ربيع المدخلي احد شيوخ السلفية في السعودية يعتبرهم مضلين ومخالفين للمبادئ والأفكار السلفية.
المفارقة هي، بعد ان عرف العراقيون السلفية فقط بصفتها متشددة ضد المذاهب الأخرى والخروج بالسلاح ضد الدولة وتفكير النظام السياسي العراقي، يتضح اليوم أن السلفية الموجودة في المساجد العراقية تشدد على طاعة ولاة الأمر، وهذا ليس مبدأ السلفية المدخلية فحسب، بل هو مبدأ السلفية "غير الجهادية" عموماً الموجودة في العراق الآن أو ما يُصطلح عليهم "المرجئة"، والفرق بينهم وبين السلفية الجهادية المتمثلة بداعش، أن السلفية غير الجهادية لا ترى مرتكب الكبائر بأنه "غير مؤمن" أو يضر إيمانه، على عكس السلفية الجهادية، كما أن موالاة الكافر لا تؤثر على الإيمان، كما يقول أبو منار العلمي الذي أتاح "طاعة بريمر" وتحليل الاستعانة بالأجنبي على نظام صدام حسين، حيث تشدد السلفية "المرجئة" على ضرورة طاعة ولي الأمر حتى وان كان كافراً، وتحرم الجهاد ضد القوات الأمنية بل وتحرم حتى التظاهر على الدولة.
محنة العقيدة في "ديمقراطية العراق".. من ولي الأمر واجب الطاعة؟
من غير المعروف سبب الخلاف الفقهي بين المدخلية وبين مشايخهم من السلفية في العراق، لكن مشايخ السلفية الذين بدأوا يحذرون من خطر المدخلية، يصفونهم بأنهم "يغالون في الجرح والتجريح"، أي يغالون بتصنيف مشايخ السلفية وتخطيئهم وجعلهم غير مؤهلين لأن يكونوا مشايخ السلفية لمعارضتهم لبعض أفكار "ربيع المدخلي".
الخلاف الثاني المتوقع والذي قد يكون سياسياً ربما، هو أن الخلاف قد يكمن بمعنى "طاعة ولي الأمر"، فمن هو ولي الأمر الواجبة طاعته؟ هل هو الزعيم السياسي الممثل للمكون السني؟، أم انه رئيس الوزراء والقادة السياسيين عموماً من الإطار التنسيقي؟، المعروف هناك خلافات سياسية بين الجميع، وعند طاعة احد ما، يعني يجب مخالفة الآخر.
الطاعة.. "فكرة مغرية لاستنساخ تيار صدري سني!"
فكرة طاعة ولاة الأمر قد تصبح مغرية للسياسيين، ويحاول بعض السياسيين استثمار هذه الفكرة للحصول على اتباع وتيار ديني قوي مثل هذا اذا اقنعهم بانه هو "ولي الأمر واجب الطاعة"، او على الأقل يستثمرهم كقوة دينية شعبية مؤثرة للتلويح بهم وابتزاز القوى السياسية والسلطات الحكومية بمنحهم الطاعة كولاة أمر او تغيير فكرة كونهم ولاة الأمر الحقيقيين الواجبين الطاعة، وهي فكرة مغرية لإمكانية استنساخ تجربة سنية تشبه تجربة الصدريين، بالحصول على طاعة مطلقة دينية لزعيم محدد تحت عنوان "طاعة ولي الأمر".
ما يعزز الاعتقاد بهذا الطرح، اتهام مشايخ المجمع الفقهي وكذلك مشايخ السلفية، وجود تيار سياسي "يمكّن" هذه الفرقة المدخلية، لكن من غير المعروف من هو التيار السياسي المقصود؟ وإذا كانت الاذهان والتصورات والإعلام ذهبوا إلى الاعتقاد بأن المقصود هو تيار خميس الخنجر، فإن الوقائع قد تبعد الاعتقاد عنه، فعلى سبيل المثال يتهم خميس الخنجر بأنه "من الأخوان المسلمين"، وهؤلاء أشد أعداء السلفية عموماً والمدخلية خصوصاً، فالاخوان المسلمون يتيحون الحراك السياسي المعارض ضد الرؤساء خلافاً للسلفية المرجئة، كما أن الخنجر ليس هو الوحيد الذي اعترض على حظر المدخلية، فكذلك فعل أحمد الجبوري "أبو مازن"، المعروف بأنه غير إسلامي اساساً.
بالمقابل، تشير المعلومات إلى أن حزباً شيعياً يقف وراء "تمكين المدخلية" ضد المشايخ السلفية، فضلاً عن شراكة من قبل هذا الحزب الشيعي مع حزب سياسي سني، بالمقابل تتهم مختلف الجهات الوقف السني بوقوفه وراء "تمكين" المدخلية في المساجد، ولا يُعرف للوقف السني تبعية سياسية محددة، لكن تقارير تشير الى وجود علاقة له مع عصائب أهل الحق.