صوت الكونعرس الأميركي الأسبوع الماضي على إلغاء تفويض استخدام القوة العسكرية ضد العراق، والذي شكل الغطاء القانوني لغزو البلاد وإسقاط النظام السابق، وقد لاقى القرار ترحيباً واسعاً في الساحة العراقية واعتبر تحولاً نوعياً في طبيعة العلاقات بين البلدين، وخطوة متقدمة باتجاه ترسيخ السيادة الوطنية.
ويرى نواب ومحللون، أن "هذه الخطوة تعكس مراجعة أميركية جادة لسياساتها في الشرق الأوسط، وتمنح العراق فرصة تاريخية لإعادة صياغة علاقاته الخارجية وفق منطق الشراكة والاحترام المتبادل، بعيداً عن موروثات الاحتلال والتدخلات العسكرية".
"خطوة رمزية"
وكيل وزارة الخارجية العراقية هشام العلوي، عدّ إلغاء الكونغرس لتفويضات الحرب في العراق، خطوة لتعزيز الشراكة مع واشنطن وترسيخاً لمبدأ احترام السيادة، فيما لفتت أنه سيمنع أي رئيس أميركي مستقبلاً من شنِّ عمليات عسكرية بالعراق.
وقال العلوي إن "تصويت الكونغرس الأميركي القاضي بإلغاء تفويض الحرب على العراق، هو إلغاء للقوانين القديمة التي كانت قد منحت الرؤساء الأميركيين (جورج بوش الأب عام 1991، وجورج بوش الابن عام 2002) صلاحيات واسعة لشنِّ الحرب على العراق من دون الحاجة للعودة كل مرة إلى الكونغرس"، وف ما نقلت عنه الجريدة الرسمية الأحد 14 أيلول 2025، مبيناً أن "التفويضات كانت على نوعين أساسيين: الأول هو تفويض 1991 لشنِّ حرب الخليج لتحرير الكويت من احتلال نظام صدام حسين، و الثاني تفويض 2002 لشنِّ الحرب على العراق وإسقاط نظام صدام حسين"، مشيراً أن "أهمية الإلغاء في هذا التوقيت تعود إلى أن العراق لم يعد تحت حكم المخلوع صدام حسين، ولم تعد هناك مبررات قانونية لبقاء التفويض، فضلاً عن أن الخطوة ستمنع أي رئيس أميركي مستقبلاً من استغلال هذا القانون لشنِّ عمليات عسكرية في العراق أو المنطقة من دون موافقة الكونغرس".
وشدد وكيل الخارجية العراقية على أن "القرار يُعدُّ خطوة رمزية أيضاً لتحسين العلاقات مع العراق، وإظهار أن الولايات المتحدة لم تعد في حالة حرب معه"، لافتاً أن "الإلغاء لا يشمل العمليات الجارية حالياً مثل التعاون العسكري ضد (داعش)، كونها تتم ضمن اتفاقيات وتفاهمات جديدة أو بموافقات مختلفة، وليس على أساس قوانين الحرب القديمة".
وصوّت مجلس النواب الأميركي بالأغلبية، يوم الخميس الماضي، على إلغاء تفويضات استخدام القوة العسكرية المرتبطة بالعراق في عامي 1991 و2002، للرؤساء الأميركيين، وذلك ضمن مشروع قانون "تفويض الدفاع الوطني" الذي يحدد السياسات العسكرية لواشنطن، في أحدث محاولة من الكونغرس لسحب سلطة الرئيس في شنِّ الحروب.
مكسب سياسي
من جانبه، أشاد عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، شعلان الكريم، بالقرار الأخير الذي يقضي بإلغاء تفويض استخدام القوة العسكرية ضد العراق، معتبراً إياه "مكسباً سياسياً وتاريخياً يعكس تحولاً مهماً في المواقف الدولية تجاه العراق، ويعزز من حضوره السيادي على الساحة الإقليمية والدولية".
وقال الكريم في حديث للجريدة الرسمية، إن "إلغاء هذا التفويض يعدُّ خطوة بالغة الأهمية تضاف إلى سجل انجازات الحكومة العراقية، وعلى وجه الخصوص لجهود رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تعزيز مكانة العراق خارجياً"، مشيراً أن "القرار يمثل نجاحاً كبيراً للدبلوماسية العراقية التي استطاعت أن تغير صورة العراق في الأوساط الدولية من دولة ساحة صراع إلى دولة ذات سيادة ومؤسسات دستورية راسخة".
أضاف العلوي أن "هذا القرار لا يقتصر على الجانب القانوني فحسب، بل يحمل رمزية كبيرة في طي صفحة من التدخلات العسكرية التي أضرت كثيراً بالوضع العراقي، ويفتح الباب أمام شراكة استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون في مختلف المجالات، خصوصاً الاقتصادية والأمنية"، مبيناً أن "المرحلة المقبلة تتطلب استثمار هذا الزخم السياسي والدبلوماسي في الداخل، من خلال الإسراع بخطوات الإصلاح، وفي مقدمتها حصر السلاح بيد الدولة، ومعالجة الملفات العالقة التي تعرقل مسيرة الاستقرار والتنمية"، وقد أشار النائب إلى أن "لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب ستواصل تنسيقها مع وزارة الخارجية والجهات المعنية لمتابعة تنفيذ الاتفاقات الثنائية، وضمان بناء علاقات متوازنة مع جميع الدول، بما يحفظ مصالح العراق وشعبه".
وأكد أن "نحن أمام فرصة حقيقية لتكريس السيادة وبناء الدولة، وعلينا أن نغتنمها عبر توحيد الجهود الوطنية، والدفع نحو إصلاحات جادة تنهي التحديات التي واجهها العراقيون طوال العقود الماضية".
رسالة سياسية
من جهته، وصف رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية، كريم المحمداوي، قرار الكونغرس الأميركي بأنه "تطور سياسي مهم يُجسِّد تحولاً حقيقياً في طبيعة العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، ويعزز من مكانة العراق كدولة ذات سيادة كاملة".
وقال المحمداوي، في حديث للجريدة الرسمية إن "هذا القرار يعكس إدراكاً متزايدا داخل المؤسسات الأميركية لأهمية احترام سيادة الدول، ويشكل اعترافاً ضمنياً بأن المرحلة السابقة من التدخلات العسكرية يجب أن تطوى لمصلحة علاقات تقوم على الشراكة والتعاون لا الهيمنة".
وأشار إلى أن "الكونغرس الأميركي، بإلغائه هذا التفويض، يبعث برسالة سياسية واضحة مفادها أن العراق لم يعد ساحة للصراع أو التجاذب، بل شريك اقليمي فاعل في حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة"، مؤكداً أن "لجنة الأمن والدفاع النيابية تنظر إلى هذا التحول بإيجابية، وتعتبره خطوة داعمة للجهود الحكومية في تأكيد السيادة الوطنية الكاملة على الأراضي العراقية".
بحسب قول المحمداوي "القرار يأتي في سياق إعادة تقييم الولايات المتحدة لسياستها الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط، بعد سنوات طويلة من التدخل العسكري الذي لم يحقق الأهداف المرجوة، بل تسبب في كثير من المعاناة للشعوب".
ولفت المحمداوي إلى أن "العراق يتطلع اليوم إلى بناء علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة تقوم على احترام السيادة وتبادل المصالح، لا على أساس التبعية أو فرض الإرادات"، وأن "القرار الأخير يمكن أن يشكّل أرضية لانطلاقة جديدة في العلاقات بين البلدين، خصوصاً في مجالات التعاون الأمني، ومكافحة الإرهاب، والتدريب، والدعم الفني للقوات العراقية، ضمن أطر محددة تحترم السيادة والقانون العراقي"، موضحاً: "إننا في لجنة الأمن والدفاع سندعم أي توجه سياسي أو قانوني يسهم في تعزيز الاستقلالية الأمنية للعراق، ونرحب بكل مبادرة دولية تحترم إرادة العراقيين وتدعم استقرارهم بعيداً عن منطق التدخل أو استخدام القوة".
تحول استراتيجي
المحلل السياسي طالب محمد كريم، يرى في القرار الأميركي الأخير يمثل تحول استراتيجي في طريقة تعامل واشنطن مع العراق والمنطقة.
يقول كريم إن "إلغاء التفويض الرئاسي لاستخدام القوة العسكرية في العراق لعام 2002 يعدُّ رسالة سياسية واضحة، تؤكد طي صفحة مرحلة الاحتلال العسكري المباشر، التي انتهت فعلياً بانسحاب القوات القتالية الأميركية عام 2011، لكنها بقيت قائمة من الناحية القانونية والسياسية"، مبيناً أن "واشنطن تسعى اليوم إلى إعادة صياغة علاقتها مع بغداد على أساس الشراكة بين دولتين ذات سيادة، بعيداً عن التفويض المفتوح الذي ارتبط بالحرب وتغيير النظام".
ونبّه إلى أن "إقرار الكونغرس الأميركي ميزانية ضخمة يخصص 60 بالمئة منها لمحاربة تنظيم (داعش)، يدل على أن العراق لا يزال يشغل موقعاً محورياً في الحسابات الأمنية الإقليمية والدولية، ويعكس هذا التمويل رغبة واشنطن في تمكين المؤسسة العسكرية العراقية وتعزيز قدراتها الاستخبارية والتقنية، مع تقليص مستوى التدخل الأميركي المباشر".
وبحسب المحلل السياسي فإن "هذه التطورات تمهد لمرحلة جديدة من العلاقات العراقية الأميركية، تقوم على مزيد من التوازن والندية، وتفتح المجال أمام تعاون أوسع في مجالات الأمن، مكافحة الإرهاب، الطاقة، الاقتصاد، والدبلوماسية الاقليمية، كما أنها تمثل فرصة تاريخية أمام العراق لترسيخ سيادته وتعزيز استقلال قراره السياسي، من خلال بناء مؤسسات قوية واستثمار التحولات الأميركية لصالح استعادة دوره كدولة محورية في المنطقة"، لافتاً إلى أن "الرسالة الأميركية تشكّل أيضاً دعوة للحكومة العراقية لتحويل الدعم الدولي إلى أداة لتعزيز الاستقرار الداخلي، وإدارة علاقاتها الخارجية بقدر عالٍ من التوازن بين واشنطن وطهران والعواصم العربية والإقليمية، لاسيما في ظل مشهد إقليمي يشهد توترات متزايدة".
وقال إن "المرحلة المقبلة مرشّحة لتحول الحضور الأميركي من شكل التدخل المباشر إلى شراكة استراتيجية، ما من شأنه أن يعزز دور العراق كعنصر توازن واستقرار، بدلاً من أن يكون ساحة للصراعات".
دلالات كبرى
من جهة أخرى، أكد الباحث السياسي، ناجي الغزي، أن قرار مجلس النواب الأميركي بإلغاء تفويضي الحرب على العراق الصادرين عامي 1991 و2002، يعدُّ "تحوّلاً استراتيجياً يحمل أبعاداً قانونية وسياسية عميقة".
قال الغزي في حديث للجريدة الرسمية إن "هذا القرار يسحب من يد الرئيس الأميركي أداة قانونية استخدمت لتبرير تدخلات عسكرية امتدت لعقود، ليس في العراق فحسب، بل في عموم المنطقة". وأوضح، أن "المشرّعين الأميركيين، من خلال هذا الإجراء، أعلنوا انتهاء المرحلة القانونية لما يعرف بـ(الحرب على العراق)، في إشارة واضحة إلى أن واشنطن لم تعد تحتفظ بتفويض مفتوح للتدخل في الشأن العراقي متى شاءت".
ذكر الغزي أن "القرار، رغم مروره في نشرات الأخبار كحدث دولي، فهو يحمل دلالات كبرى للعراق، إذ يسقط إحدى أهم الذرائع التي لطالما استخدمت للتشكيك في استقرار النظام السياسي العراقي، ويمنح الحكومة فرصة حقيقية لتأكيد أن أزمات الداخل تحلُّ ضمن المؤسسات الوطنية".
ودعا الغزي، "البرلمان العراقي إلى مواكبة هذه الخطوة بإصدار بيان وطني جامع، يعبر عن استعادة العراق لجزء مهم من سيادته، ويقدم للرأي العام العراقي والدولي موقفاً موحداً تجاه المرحلة الجديدة"، وشدد على "ضرورة أن تتحرك الحكومة العراقية نحو صياغة اتفاقية أمنية واضحة وشفافة مع الولايات المتحدة، تنظم العلاقة المستقبلية على أسس الشراكة، وترسخ لمرحلة جديدة من التعاون السياسي والاقتصادي والأمني، بعيداً عن إرث التفويضات القديمة"، منوهاً إلى أن "القرار الأميركي، رغم أهميته، لا يعني أن الولايات المتحدة تخلَّت بالكامل عن أدوات التدخل"، مشيراً إلى "استمرار وجود تفويضات أخرى، كقانون مكافحة الإرهاب لعام 2001، وصلاحيات الرئيس الدستورية في تنفيذ عمليات محددة".
وحذّر الغزي من أن "بعض الأطراف السياسية، داخل العراق وخارجه، قد تحاول استثمار الفراغ الخطابي الذي تركه هذا القرار، عبر التلويح بمخاطر جديدة، سواء عبر التخويف من مؤامرات إقليمية، أو عبر إثارة ملف (داعش) من جديد"، مشدداً على أن "الرد على هذه المحاولات يجب أن يكون عبر تعزيز قوة الدولة الوطنية، وتكريس الثقة بالحلول الداخلية".
واعتبر الباحث أن "انسحاب القوات الأميركية والتحالف الدولي من قواعد عسكرية رئيسية، مثل (عين الأسد وفكتوريا)، يعدُّ مؤشراً إيجابياً على أن العراق يتجه بخطى متقدمة نحو استعادة سيادته الكاملة"، مؤكداً على أن "قرار الكونغرس الأميركي يمثل نهاية رسمية لمرحلة التفويضات التي شرعت للحرب على العراق"، وداعياً "القوى السياسية العراقية إلى اغتنام هذه اللحظة التاريخية، وتحويلها إلى نقطة انطلاق نحو استقرار سياسي طال انتظاره".
يذكر أن تفويض استخدام القوة العسكرية، الذي منحه الكونغرس الأميركي عام 2002 للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، كان الأساس القانوني لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين. وظل هذا التفويض سارياً حتى بعد انسحاب القوات الأميركية في عام 2011، مما أثار انتقادات داخلية وخارجية بخصوص استمرار صلاحيته القانونية والسياسية.