قبل أيام شهدت العاصمة الفرنسية باريس حدثاً لافتاً وهو تسمية أحد شوارعها باسم "البيشمركة"، وذلك بحضور الزعيم مسعود بارزاني ونخبة من الجالية الكوردية ومجموعة من البيشمركة المقيمين في باريس، وحضر الاحتفال أحد جرحى الحرب ضد "داعش" وهو من البيشمركة، أصيب بجروح بالغة في تلك المعركة.
والبيشمركة لمن لا يعرف، هي القوة العسكرية والقومية لشعب كوردستان، والتي قادت الكفاح المسلح للكورد عبر الأجيال وحتى اليوم.
والمعنى اللغوي للمصطلح بالعربي هو "أمام الموت"، أي أنَّ من يحمل اسم البيشمركة يتحدى الموت ويضحي بنفسه من أجل نصرة الثورة الكوردية ويرمي بنفسه أمام الموت من أجل نصرة قضيته وحماية شعبه. وهذا فهمنا للبيشمركة وليس تعريفاً جامعاً ومانعاً من الناحية العلمية.
والمهم في الموضوع اليوم أنَّ البيشمركة أولاً وأخيراً هي قوة عسكرية، لذا من المهم أن تتخذ الدولة الفرنسية خطوة كهذا وهي تنصيب اسم هذه القوة على أحد شوارعها وفي قلب أوروبا، في حين أن كثيراً من المجموعات المسلحة في العراق وفي المنطقة توضع من قبل الدول الغربية في خانة الإرهاب أو تصنّف أسماؤها على قوائم سوداء!.. نذكر هذا في إطار البحث عن الحقيقة وليس نكاية بأحد.
هنا يتشكّل سؤال مهم.. كيف استطاعت البيشمركة البقاء على اسمها كقوة عسكرية شرعية مقبولة عند الجميع حتى من قبل الأوروبيين الذين لا يحبذون التعامل مع مجموعات مسلحة خارج إطار الدولة؟
وللجواب على السؤال أعلاه، يجب أن نرجع إلى قراءة تاريخ البيشمركة و نضالها، وهو مصدر هذه الشرعية التي لم تستطع أي قوة عبر التاريخ النضالي لهذه الفئة المسلحة أن تَمُس هذه الشرعية، أو أن تشكك في شرعيتها الثورية والأخلاقية.
وتاريخياً، ظهرت جذور البيشمركة منذ أوائل القرن العشرين مع الحركات الكوردية المطالِبة بالحقوق القومية في وجه الحكومات العراقية المتعاقبة.
وفي ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، شاركت القوة في ثورات كوردية ضد السلطات العراقية وبرز دورها بشكل قوي مع ثورة الزعيم مصطفى بارزاني عام 1961، حيث خاض البيشمركة مواجهات مسلحة استمرت لسنوات ضد الحكومة العراقية للمطالبة بالحكم الذاتي.
بعد اتفاقية آذار 1970 بين الحكومة العراقية والكورد، مُنح الكورد حكماً ذاتياً محدوداً، لكن سرعان ما انهار الاتفاق وتجدد القتال.
وفي الثمانينيات وأثناء الحرب العراقية–الإيرانية (1980–1988)، وجد البيشمركة أنفسهم بين طرفي الصراع، وتعرضوا لحملات عسكرية عنيفة أبرزها حملة الأنفال التي نفذها نظام صدام حسين، والتي شهدت عمليات إبادة جماعية وتهجير واسع للكورد.
وعقب انتفاضة كورد العراق عام 1991 ضد نظام صدام حسين وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية، تمكنوا بدعم من التحالف الدولي من فرض سيطرتهم على مناطق كوردستان العراق. ومنذ ذلك الحين، أصبح للبيشمركة دور أساسي في حماية الإقليم.
بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003، اعترف الدستور العراقي بالبيشمركة كقوة رسمية تابعة لإقليم كوردستان لكن كجزء من المنظومة الدفاعية للعراق. وقد برز دورها بشكل عالمي بعد عام 2014 عندما تصدى عناصرها لهجمات تنظيم داعش، واعتُبروا من أكثر القوات فعالية في مواجهة التنظيم بدعم من التحالف الدولي.
اليوم يُنظر إلى البيشمركة كرمز للنضال الكوردي من أجل الحقوق القومية، إضافة إلى كونها قوة عسكرية منظمة تدافع عن إقليم كوردستان. وباختصار، فإن شرعية البيشمركة تأتي من شرعية القضية التي يحملها مقاتلوها على أكتافهم وفي أرواحهم ودمهم، وهي القضية الكوردية التي لا يجرؤ أحد على التشكيك في مشروعيتها، لأنها قضية شعب حُرم منذ سايكس بيكو من حقه في إقامة دولته على أرضه. وهي القضية التي ضحّى من أجلها هذا الشعب بالغالي والنفيس ولم يتخلّ عن المطالبة بحقوقه رغم العقبات والنكبات التي تعرض لها على طريق نضاله المشروع.
لذا فإن أي قوة تستند إلى هذه الشرعية لاشك أن تكون قوة ذات شرعية وجودية، تختلف جوهرياً عن مجموعات مسلحة تتكون خارج إطار الدولة ولا تستند إلى أية شرعية ثورية أو قضية حقيقية.
ويجب أن لا ننسى هنا الأخلاقيات النضالية للبيشمركة الذين اثبتوا التزامهم كقوة مسلحة بمضامين حقوق الانسان و حقوق الأسرى و المحافظة على أرواح المدنيين وعدم استخدامهم لوسائل لاأخلاقية وإرهابية كتخويف المدنيين وتعريضهم للأذى والقتل كما يحصل دائماً على يد الجماعات المسلحة خلال الحروب. وما حصل في مدينة السويداء السورية والساحل السوري ليس ببعيد.
كما يجب أن لا ننسى في هذا المضمار "الدفاع المستنيب" للرئيس مسعود البارزاني عن البيشمركة وشرعيتها الوجودية خلال مسيرته النضالية وفي أكثر من مرحلة سياسية.
مسعود البارزاني الذي اختار لنفسه لقب (البيشمركة) وفضّله على كل التسميات والألقاب والمناصب الأخرى، هو الذي ترك منصب رئيس الإقليم لكنه لم يترك منصب (البيشمركة)، وفي هذه دلالة رمزية مهمة وتحصين كبير لهذه الفئة المناضلة.
ومن أشهر المراحل التي دافع فيها الرئيس بارزاني عن وجود البيشمركة، مرحلة ما بعد سقوط الطاغية صدام إبان المرحلة الانتقالية، حيث حكم لفترة انتقالية وجيزة الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، العراق.
ومن المعروف أن أثناء هذه الفترة، اقترح بريمر على قادة العراق في مجلس الحكم حل جميع المجموعات المسلحة ومنهم البيشمركة، لكن الرئيس بارزاني رفض وضع البيشمركة في خانة المجموعات المسلحة الأخرى، وبيّن لبريمر والحاضرين أن البيشمركة ليست قوة مسلحة بل هي ممثل تاريخي لنضال شعب كوردستان وشتان بينها وبين المجموعات المسلحة الأخرى.
وبإصرار من الرئيس بارزانى، تراجع بول بريمر عن مطلبه بحل البيشمركة وأخذ فكرة صحيحة عن هذه القوة المسلحة. وبالفعل، لقد رأى العالم جميعاً أيام داعش ضرورة وجود البيشمركة، وإنها تمثل شعباً وقضية وليست مجموعة مسلحة.
إذاً، إن الشرعية الحقيقية للقضية الكوردية والالتزام بالأخلاقيات النضالية للبيشمركة أثناء الحروب والمحافظة على وجوده والدفاع عنه من قبل الرئيس بارزاني هذه العوامل الثلاثة تقف خلف هذا الحدث المهم، وهو تتويج البيشمركة اليوم في قلب أوروبا وتنصيب اسمه على أحد شوارع باريس عاصمة الحرية في العالم.